أجاثا كريستي.. الحياة والكتابة في العراق

ثقافة 2024/07/09
...

 أثير الهاشمي

الكتابة فن لا يجيده إلا من رُسمت في عقله موهبة التعبير، فالإنسان يولد موهوباً، بالفطرة يكتب، وبالبراءة يسرد، يحرك اللغة في مخيلته، ويخط الكلمات في ذهنه، وهناك من يجسدها على الورق؛ كي لا تضيع المعاني أو تمحى الأفكار، ومن ثم تصقل الموهبة بمرور الوقت، من خلال الوعي والأداء؛ يكون كاتباً من يمتاز بالكتابة، ويظهرها للناس كلهم، ويختفي من يبقي آلآمها داخل حجرة عقله.

يتأثر أيّ كاتب بما يقرأ، فضلاً عن تأثير البيئة المُحيطة عليه، تؤثّر على لغته وعلى طبيعة الألفاظ التي يوظّفها، والمعاني التي يشكّلها، وعلى وفق ذلك، عُرفت الكاتبة أجاثا كريستي بتميزها في الكتابة، وتفردها ككاتبة في الرواية البوليسية.

 تهتم أجاثا بالحديث والسرد عن الموضوعات المتعلقة بالشرطة أو الجريمة أو العقاب، فضلاً عن تجسيدها للغة العنف أو الموت وما شابه؛ نظراً للظروف التي عاشتها في بداية حياتها، سواء طبيعة الحياة التي أحاطتها، أم طبيعة نوع الكتابة الذي انتشر في وقتها.

إنّ كريستي مولعة بالكتابة عن العنف والمواضيع التي تدور حول ذلك، لكننا لا نتطرق إليها بوصفها كاتبة لأنواع أُخر من الكتابة، إذ تحوّلت إلى السرد المُهذّب في الغزل والرومانسية والأمل والحياة، فكانت تتكئ على لغة الحُبّ في كتابة نصوصها الروائية، قبل اتكاءها على العصا التي كانت ترافقها في سفرها وإقامتها في العراق، وبعد زواجها من الآثاري ماكس مالوان.

تحوّلت لغة كريستي بعد مجيئها للعراق كما نمط حياتها، فصارت تكتب بلغة شفّافة، مفعمة بالرومانسية، ومتشكلة على وفق مشاهدات ومعايشات للواقع، فتغيّر الحال من الموت والجريمة، إلى البوح عن حياتها في العراق، وتحوّلت لغتها من خلق الوهم والخيال، إلى نقل الواقع بلغة سلسة، ولغة روائية أدبية من دون المساس بالحقائق، حتى في الروايات أو الكتب التي حملت عنوانات الموت أو الجريمة، ففي كتاباتها أحاديث تعبّر عن  حياتها الجديدة في العراق، ومن ذلك كتابها "لقاء في بغداد".

ما يُميّز شخصية كريستي لغتها التي تتجسد في روح الكلمة، فهي تستحضر ما تؤمن به من تعبير، وتسرد ما تحلّله من رؤيا، وتصوغ بأسلوبِها المنفرد ما تحياه في الواقع الذي تعيشه، ومن ثم تعكس سرداً روائياً متكاملاً، لا نقص فيه، ولا زيادة عليه.

عاشت أجاثا في العراق، أحبّت الرجل الذي تمنته على تلك الأرض، وتزوجت منه في هذه الأرض، وعاشت حياتين هنا في العراق، حتى بدت وكأنها العراقية التي تتلو مشاعرها، كطائر حرّ في سماواته، وإنسانة حالمة على أرضه.

أحبّت أجاثا كريستي تأريخ العراق، بقدر حبّها لزوجها، فلعبت دوراً بارزاً معه في التنقيب والبحث والدراسة، حتى وقفت معه بقدر شغفه بالحضارة العراقية القديمة، فشغلت مكاناً موازياً له، إذ تحوّلت من مجرد امرأة زائرة أو روائية سائحة إلى زوجة لعالم آثاري، ومن ثم استقرت  بوصفها ضمن وفد الآثاريين، حتى بدت مهووسة بالتنقيب، ومن ثم بدأت كتاباتها تُسرد عن التأريخ والحضارة في العراق، فضلاً عن مشاهداتها اليومية التي تجسّدت في مؤلفاتها التي كُتبت في العراق.

كتبت أجاثا كريستي مذكراتها في العراق، تحت عنوان "تعال قل لي كيف تعيش"،  إذ لم تسرد كلّ مشاهداتها، بل كانت ذكريات عابرة، مرّت سريعا، ركّزت فيها على عدد من المناطق من دون أخرى، تعاطفت مع عدد من الشخصيات، وتناست آخرين، اتّسعت في القول على أحداث معينة، ولم تسرد عن أحداث أُخر.

لم تغفل كريستي المدن التي عاشت فيها، أو تنقّلت عبرها، وأبرزها مدينة بغداد، التي اقامت فيها، وتحدثت عنها في كثير من الأحيان، حتى في تفاصيل مشاعرها الصغيرة، عن التعب والنوم والراحة، وعن مشاهداتها الإيجابية أو السلبية، وعن تفاصيل الحياة اليومية، وتطرقت أيضا عن المدينة الأثرية التي أحبتها، وهي "نمرود"، فكانت تلك المدينة الأهم من حيث التنقيب، وما عُثر فيها، وأبرزها وجه "موناليزا نمرود"، وغيرها من القطع الأثرية التي اُكتشفت في تلك المدينة.

تحدثت الكاتبة كذلك عن مدينة "نيبور الأثرية"، التي تقع في مدينة عفك جنوب محافظة الديوانية، وسردت مشاهداتها عمّا واجهته من صعوبات ومواقف وهي في طريقها وإقامتها في تلك المدينة.

عُزّزت إقامتها ومشاهداتها في صور ثمينة، عُدّت شاهداً عن حضورها في تلك المدن، فضلاً عن إظهار تفاصيل ملامحها، وملامح العمل الذي خاضته مع زوجها وفريقه في مغامرتها الكبرى في العراق، والتي خُلّدت إلى يومنا هذا.

والكلمة التي لا بدّ من بوحها هنا، أننا نحتاج إلى متحف يضمّ في طيّاتهِ أهم زيارات المشاهير للعراق؛ لتضمين حضورهم، ومشاهداتهم، وأفكارهم، ومن ثم المدة التي قضوها هنا في العراق؛ ليكونوا ضمن الجيل الذي اهتمّ بماضينا، ونقل ما ورد منهم عنّا؛ لتكون دروساً للأجيال الحاضرة والقادمة، يُوضّح لهم بأهمية -العراق- تأريخيا ً وثقافياً وأدبياً.

كريستي برفقة زوجها الاثاري ماكس مالوان