أديب كمال الدين: ملكُ الحروف

ثقافة 2024/07/10
...

باقر صاحب

ليس أدلّ على الولوج إلى العالم الشعري، للعراقي المغترب أديب كمال الدين،  من شجرة حروفياته السامقة. مُدخلات التركيب الدلالي والتشكيل الفني في تجربته كشاعر سبعيني، منذ مجموعته الشعرية الثالثة” جيم” 1989  ، تأسّست على الحرف والنقطة، أصغر أنوية لغتنا العربية الجميلة. واتّخذ منهما جسوراً دلاليةً وجمالية، للتعبير عما يعتمل في ضمير الشاعر من مساءلاتٍ وجوديةٍ وهمومٍ ذاتيّة وجمعية، تشكّل بالمُجمل رؤية الشاعر للعالم.

ورأى نقّادٌ ودارسون أنّ كمال الدين ألحّ كثيراً على استخدام الحروف في تجربته الشعرية الطويلة، التي يقول عنها الشاعر بأنّ عمرها نصف قرن تقريباً، لكنّه مازال مصراً على تأكيد أسلوبيّته الخاصّة عبر استلهام، إلى أبعد مدى، عوالم الحروف والنقاط، معبّراً عن صدق تجربته الشعرية في هذا المضمار. وبالإمكان القول إن الشاعر ردّ على تهمة إلحاحه على الاستثمار الحروفي   في أحد الحوارات معه : “تأمّلتُ في الحرف العربي خلال رحلةٍ شعريةٍ امتدّت أكثر من أربعة عقود ولم تزلْ متواصلة، وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتّخذتِ الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموزٍ ودلالاتٍ وإشاراتٍ تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقودٍ من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية”، في جانبٍ آخر، التجربة الحروفية لم تأتِ اعتباطاً، بل أنّ كمال الدين أفاد من كتب التصوّف الإسلامي، متمثّلةً في كتب الفتوحات المكّية لابن عربي، وبعض شطحات الحلاج وكلماته  في الطواسين وأشعاره، ومواقف النفري، وكتب   أبي حيان التوحيدي.
مختاراتٌ حروفيّة
أديب كمال الدين، أصدر أكثر من ثلاثين مجموعة شعرية، من بينها: نون، النقطة، شجرة الحروف، الحرف والغراب، مواقف الألف، في مرآة الحرف، حرف من ماء. ومن ثمّ ضمّها في سبعة مجلّداتٍ من الأعمال الشعرية الكاملة. وخصَّص مؤخراً، بما عُرف عنه من دأبٍ واجتهاد، مجلّداً آخر لمختاراته الحروفية، صدر عام 2024 عن داري ضفاف والاختلاف. ومنه يستطيع القارئ الدقيق، تفحّص التجربة الشعرية لكمال الدين في عالم الحروف. قسّم كمال الدين كتاب مختاراته الضخم (692 صفحة) إلى أربعة أقسام: مرايا الحروف، إخوتي في الحرف، حرف السجود، حرف المتدارك وما شابه.
في البدء نقول إنّ كمال الدين يعترف نصيّاً، بأنّ كتابة قصيدةٍ قوامها الحرف والنقطة ليس بالأمر السهل، بل معاناة، أسهل منها أن يتخلّص من حياته، وذاك اعترافٌ بقدسية الكتابة ومهابتها، الكتابة الحروفيّة خاصة، وعلى ذلك أنّ استنطاق الحرف والنقطة يثريه كمال الدين بدلالاتٍ إنسانية، كما في قصيدة” أغنية إلى الإنسان” على سبيل المثال، لا الحصر، فمن الجلي أنها خطابٌ مباشرٌ إلى الإنسان وتذكيره بقيم الجمال والنقاء.
يمكن القول عامة، إنّ  صياغاته الشعرية، التي تغلغلت فيها الحروفيّات، بصدقٍ فنّيٍّ واضح، كانت منطلقاً للتعبير عن القضايا الكبرى في الوجود، مثل الحياة، والموت، والحب، والكراهية، والظلم، والفقر، والطغيان. وترسّخ هذه المنطلقات إضاءة البروفيسور حسن ناظم لتجربة كمال الدين الحروفية وغناها الدلالي حين يقول” الحروف احتجاجٌ على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغازٌ ومفاتيح لفكّ المُستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجامٌ وتنافر، إنّها التناقض المطلق. وهي، من جهةٍ أخرى، أدوات، ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرّر بلوغه الفهم الأخير لكلّ شيء” .
هذا التطعيم بالحرف والنقطة في سائر أشعار كمال الدين هو لترسيخ أسلوبيّته الخاصة في تجربته الشعرية الطويلة، ولإغنائها جمالياً، لجهة جذور الإفادة التراثية والمعاصرة من الحرف خطيّاً وزخرفيّاً وتشكيليّاً، ومحاولة إبراز  معانٍ جديدة للحروف بحسب المعطيات الدلالية للنص. في قصيدة “ عاشق الهلال والنقطة” يتداخل العشق الإنساني مع عالم الحروف لغاية التصريح بالرغبة في اختراع أبجديّةٍ جديدة، بالتعاشق مع الحروف نفسها، وكأنّها كائناتٌ حيّة” ينبغي للشاعرِ أن يعشق/ حتّى يتعرّف إلى الشمسِ وهي تشرقُ ليلاً/ وإلى الهلالِ وهو يصبحُ نوناً من غيرِ نقطة/ وإلى النقطةِ وهي تصبحُ سِحْراً/ يضيءُ فحمةَ الليل” .
مخاطباته الشعرية للحروف، تسبغ على أشكالها معاني جديدةً لا حصر لها، كأنّها أشبه بالتعاويذ، فهو حين مناداتها، يروم خلق عالمٍ  جديدٍ لها، وبالتالي خلق فرادة التجربة الشعرية للشاعر ذاته، فهو يذهب بإصرار، إلى  استثمار أقصى أبعاد مغامرته الحروفية، مثلما يرى الناقد الدكتور حاتم الصكر في مقالةٍ شاملةٍ عن الشاعر” لعلّ حالة أديب كمال الدين حالة نموذجية للإصرار على استخدام الحرف، واستثمار طاقاته الروحية العميقة على مستوى الدلالة، وطاقته الجمالية على مستوى التشكيل والبنية” .
يتحدّث الشاعر بحميميّةٍ وعتابٍ مع الحروف، كأنّ اكتشافها، في بدايات تجربته الشعرية، يمثّل له انفتاح مغاليق الكون، بعد معاناته الكبيرة في هذه الحياة، التي يروم من خلال الشعر، الرسوّ في مرافئ الخلاص من المعاناة. هذا التحدّث، الذي ينساب بعذوبةٍ وعفويّة، يشكّل الملمح المهم في البناء الفني لقصيدة كمال الدين” أين كنتِ كلّ هذه السنين؟/ لماذا صعدتِ الآن إلى سطحِ أيامي/ بعد أن كانَ الغموضُ يأكلك/ كما يأكل سمكُ القرشِ السمكَ الصغير؟/هذه أسئلةٌ وضعتـُها أمامَ النون/فرأيتُ الألِفَ يلقي بنفْسه في البحر/بهدوء” .
أخوتي في الحرف
في قصائد مختاراته، استثمر التناصّ مع الأنبياء في قصصهم، وكبار الكتاب في أسفارهم الإبداعية، والفنانين في آثارهم الخالدة، فضلاً عن شخصياتٍ أسطورية وتراثية. وأفرد لها القسم المعنون بـ” أخوتي في الحرف”، فأفاد كمال الدين من ملحمة كلكامش، وديستويفسكي، ولوركا، والبياتي، وعبد الحليم، وعفيفة اسكندر، وأم كلثوم، ومحمود البريكان، ونجيب محفوظ ، وفيروز، وتولستوي، وحسب الشيخ جعفر، وسركون بولص وغيرهم. اعتنت اشتغالاته المعرفية مع السالف ذكرهم، بحسب حالاتٍ خاصةٍ بهم، عُرفوا بها من خلال سرديات التاريخ الأدبي عنهم، مثلاً، الشاعر يعدُّ نفسه محظوظاً، لأنَّه مسح بيديه دموع كلكامش المنهمرة حزناً على صديقه أنكيدو، وعلى فقده عشبة الخلود التي سرقتها الأفعى. وعلى هذا المنوال، يتناصّ مع ديستويفسكي بذكر أهم رواياته، ويدسّ كمال الدين معلومةً سرديةٍ بأنّه تأثّر بكتابات عملاق الرواية الروسية في سن العشرين.
استثمارٌ سردي
بالتوغل في قصائده عن أهل الأدب والفن، نسجّل أنّ كمال الدين استثمر السرد في تبيين الثيمات المعروفة في سفرهم الإبداعي وشذرات سيرة حياتهم، ليس مع أخوة الحرف فحسب، بل معظم قصائد المختارات، مثلاً، في قصيدة عن لوركا، هناك إشارةٌ واضحةٌ على أنّ من قتله هو الجنرال فرانكو، ولوركا كشاعرٍ مناضلٍ غنّى من أجل الحرية لشعبه، إن لم يُستهدفْ من قبل فرانكو، فمن قبل أتباعه، ومن قبل كلّ الطغاة القتلة على مرّ التاريخ، وكأنّ النصّ سرديةٌ متمازجةٌ مع الأبيات العفويّة العذبة، من تاريخ استشهاده حتى بات أيقونةً نضاليةً إبداعيةً لامعةً في تاريخ الأدب العالمي. شواهد شعريةٌ لا تُحصى، ترينا الاستثمار السردي في حروفيّات كمال الدين، منها سرديّته الباذخة عن عبد الوهاب البياتي، ففيها إلماحاتٌ مختارةٌ بدقةٍ عن سيرته الشعرية الهائلة، هذا الذي بعد رحيله بفترةٍ قريبة، وُجّهت إليه سهام الشتم والهجاء مقلّلةً من قدر سيرته الشعرية:” ثُمَّ إذ ابتلعتكَ الأرض/ أعني في اللحظةِ التي ابتلعتكَ الأرض/ شتموك/ وطالتْ ألسنتهم كثيراً كثيراً/ حتّى صرتَ “الشاعر الضحل” لا “الشاعر الفحل”!”. وباستثمار حكاية أحد مشاهير الفن، عبد الحليم حافظ، هناك تضمينٌ مشوّقٌ لقصّة كفاحه وشقائه في الحياة وصعوده العبقري في عالم الغناء، روّض تحدياتٍ كبيرةً في حياته، ولكنّهُ روّضتهُ جرثومة البلهارزيا، وأطاحت به وهو “ قمة الحب والشهرة”.
صوفيّات كمال الدين
ملمحٌ بارزٌ في تجربة كمال الدين، ذلك هو استلهام مواقف وشطحات أكبر المتصوفة في التراث العربي والإسلامي، وأشهر من أفاد منهم في هذا العالم، النفري في مواقفه، ففي القسم المعنون بـ” حرف السجود” يعلن في المُفتتح أنه سيقتبس منه جملة البدء، في رحلته لإشهار كتاب الملوك، قاصداً بذلك الله سبحانه وتعالى. هنا تطويعٌ للجملة السردية، التي تتكرّر في مواقف النفري” أوقفني وقال”، والتي ستصبح هنا مواقف كمال الدين، ففيها يخاطب النفري، بوصفه الغاية والوسيلة في التضرع إلى الله، وهو تضرّعٌ تنتفي فيه المطلبيّات المادية، تشبّهاً بمواقف الزهّاد والمتصوّفة، ويحضر فيه السفر الروحاني، لتقلّد أسمى الأسماء في هذا السفر، ومع ذلك، فهي لا تنجع، فهي المُراد العَصيّ للروح التي لا تستقر إلاّ بالصعود إلى السموات العليا: “ فكيفَ ستختار نجمَك؟/ أعرفُ أنّكَ ستقول/” الغريب”./ لكنّ هذا لا يُجيب/ وستقول: “المَنفيّ” أو “المَحروم” أو “الضائع”/ أو “المُمتَحن” أو “المُشتاق” أو “السَّجّاد”/ أو “المَنسيّ” أو “المُتضرّع” أو “المُنوّن”/ أو “المُتصوّف” أو “الزاهد” أو “العارف”/ وكلّ هذا لا يحيط”. تتعدّد مواقف كمال الدين، كلُّ موقفٍ مُضافٌ إلى ثيمةٍ معيّنة، بحسب دلالتها، تتدفّق تهجّدات الشاعر إلى الله،  أعني ما يلي؛ موقف الألف، موقف الرحيل، موقف المهد، موقف الظلام ، موقف الوحشة، موقف الصبر، موقف الشوق، موقف الاسم، موقف الحرف ، وغيرها تليها الإشارات أحد رموز المتصوفة، وباستقرائنا لمواقف كمال الدين وإشاراته، نتيقن بأنها  تمثّل تجربة الشاعر من النواحي الإنسانية والثقافية والاجتماعية أيضاً. فهي ليست ثيماتٍ استعلائيةً راكزةً في البحث عن الذات الصوفية وفنائها وتوحّدها مع الجليل الأعلى فحسب، بل نجدها تبحث في ما يحيطنا من واقع، ويشغلنا من أفكار، من الجانب المأساوي في شعرنة الموت والحرب، وآخر إيجابي في الحديث عن الحب والحياة، يتمازجان ضمن الأبعاد الحروفية والصوفية لتجربة أديب كمال الدين.