الشباب والفكر إشكاليَّة علاقة الشباب بالعالَم

ثقافة 2024/07/10
...

محمَّدحسين الرفاعي

[I]
الفكر العربيّ والجيل الجديد، هذا عنوان مليء بالأمل والتفاؤل؛ أو في الظلام والعتمة، والتظليم والتعتيم اللَّذَيْن في الفكر العربيّ اليوم، وهذا أيضاً عنوان آخر يشي بالكثير من التشاؤم والتقهقر. كلاهما يدفعان نحو التَّساؤل المباشر والجذري عمَّا يفعله الشباب، ويفكر عبره، ويعي العالَم من خلاله، ويفهم ذاتَ نفسه العميقة بتوسُّطه. ببساطة كيف يفكر الشباب اليوم؟ وما الذي يفعله؟ وكيف يتطلَّع إلى المستقبل؟ علينا أن نفكِّرَ بذلك عَبرَ منظور نظري Theoretical Perspective يأخذ أوَّلاً بالشباب على أنَّه موضوع الفكر العربيّ، وثانياً بمنظور عملي Practical Perspective بواسطة رسم معالم الطريق للشباب من أجل أن يُنتج معرفة عالَميَّة داخل الفكر العربيّ؛ لكن عَبرَ تكوين علمي وأكاديمي صارم. وعلى ذلك، لستُ معنيَّاً هنا بهواة القراءة الفكريَّة.
[II]
ثم اتجاهان، اليومَ، في التَّساؤل عن الشباب. اتجاه ينظر إليه على أنَّه تائه ضائع ليس لديه فهم ووعي ومسؤولية كما كان لجيل الآباء والأجداد، وهو اتجاه مأخوذٌ بمنظور كلاسيكي محافظ؛ واتجاه آخر ينظر إلى الشباب على أنَّه، بمعرفته، مهما كانت هذه المعرفة، قد تخطَّى جيل الأجداد والآباء، ويُثني على وعيه وفهمه وفكره، وبالتالي وجوده بوصفه أكثر حُرِّيَّة وإمكاناً للفعل، والفكر. ولكنَّني، من منظور المسؤولية العِلميَّة والفلسفية في الفكر العربيّ، بعدَ هذين الااتجاهين، أو قبلَهما حتَّى، سآخذ بجيل الشباب على أنَّه ثروة عالَميَّة ووطنية علينا الااستثمار بها، في كل حقول الوجود المجتمعيَّة من جهة، ومؤسسات الدولة والاقتصاد من جهةٍ أخرى.
[III]
لماذا الشباب ولماذا التوقف عند تظليم الفكر العربيّ، وتعتيمه، وبالتالي تجهيل الفكر العربيّ اليوم، عَبرَ عدم الوعي بالشباب، وعدم وعي الشباب بضرورة الوعي بالفكر العالَمي، عَبرَ الوعي بضروب أفعاله، وأفكاره؟ لأنَّ ضرورة التجديد تدفع التساؤل عن الفكر العربيّ الجديد نحو أقصى إمكان من إمكاناتِ التساؤل Questioning- Interrogation، على نحو حُرٍّ، ولكن مسؤول أيضاً. بَيْدَ أنَّهُ، ولأنَّ ثَمَّةَ عمليات بناء وتعيين وضبط من شأن [تجديدِ- التَّساؤل]، وليس تساؤل التجديد، علينا أن نتوقف عند مفهوم التجديد من منظار مفهوم العالَميَّة. كيف نفهم التجديد من خلال منظور نظري يفهم العالَمَ قَبلَ فهمِ الجديد؟
لا ثَمَّ تجديد، في الفكر العربيّ، من دون عقل علمي شاب ملتزم بحدود تضعها مفاهيم العالَميَّة، والمجتمعيَّة، والإنسانية، والأخلاقية. ولكل مفهوم من هذه المفاهيم قوة تحديد، وإلزام، ومَوضَعة Objectivation. باعتبار أنها تقع في جذر التَّساؤل الإثيقي (الفلسفي عن الأخلاق)، من جهة تنظيم الوجود في العالَم، والدفاع عن الإنسان والأنسنة، من جهة ضرورة الدفاع عنهما، وفتح آفاق الفهم الجديدة، بوصفها حقول وجود جديدة.
[IV]
ترتبط العالَميَّة بمؤسسة العلم والمعرفة العِلميَّة الحديثة وما بعد الحديثة التي تنتج وتعيد إنتاج المعرفة على نحو التخصُّص، والاستشكال العلميّ- والفلسفي؛ وهي تعتبر بمثابة بداهة ضرورية، كُلِّيَّة، مُلزمة في كل ضرب من ضروب التَّساؤل والتفكير والفهم العِلميَّ. وعلى نحو العالَميَّة تكون المعرفة؛ أو لا تكون من جذرها. لكن هذه المعرفة تتوجه مباشرةً إلى المجتمع والإنسان في العالَم، ولا تقف، في التواشج البنيوي بين المجتمعات، عند حدود مجتمع بعينه، أو إنسان محدد. ولكن، لأنَّنا كائنات تتوفَّر على إمكان أن تكون في العالَم، وبالعالَم، ومن العالَم، وللعالَم، فإنَّ العالَميَّة تفتح إمكان فهم المجتمعيَّة من جهة أنَّ الذَّاتَ أصبحت فاتحةً للعلاقة بالآخر، في اختلاف وتعدُّد وتنوع.
وهكذا، تشتمل المجتمعيَّة على الأخذ بأصول المجتمع في المعرفة والنَّظر في النَّظر الفلسفي- العلميّ لموضوعات المجتمع والإنسان في إمكان التعرُّف عليهما تخصُّصيَّاً. أي التمييز بين مكوِّنين أساسِّيَّيْن فيها. مُكَوِّنٌ عامّ وعالَمي يقوم على تجاوز المعرفة لمجتمعها، وإنسانها، والذَّات التي أنتجتها؛ ومُكَوِّن خاصٌّ ومحليٌّ يرتبط بشروط إمكان المعرفة في الثقافة والاقتصاد والسياسة، في مجتمع من المجتمعات، أو بلد من البلدان. ولكن، من جهة أنَّ لا ثَمَّةَ معرفةً إلاَّ وهي نتاج ديالكتيك المجتمع والحرية مأخوذةً اِنطلاقاً من الذَّات العارفة، على نحو التَّساؤل العلميّ، والتفكير الفلسفي، والفهم الواعي بذاته، فإنَّ المعرفة، كل المعرفة، أي كل أصناف المعرفة وأنواعها ومستوياتها وطبقاتها وحقولها، إنَّما هي نتاجٌ إنسانيٌّ نحو العالَميَّة؛ على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها تبدو، في الوهلة الأولى، آيديولوجيَّةً، أي مأخوذةً من جهة الأصول المجتمعيَّة التي تقوم عليها. في السير على الطريق إلى المجتمعيَّة، توفِّرُ هذه الأخيرة الأساس الثَّالث في المعرفة الذي يُؤخَذُ كنتيجة ونتاج للعالمية والمجتمعيَّة، أي مفهوم الإنسانيَّة.
[V]
وتتعلق الإنسانيَّة بالأخذ بأنَّ المعرفةَ العِلميَّة والفلسفية إنَّما هي تهدف إلى الحفاظ على الإنسان، ضمن معايير قيمية أخلاقية (آكسيولوجية إثيقية) هي الخير العامّ، خير الإنسان العالَمي والعام، والتضامن مع الإنسان بمعزل عن هُويَّتِهِ بعامَّةٍ، ووضع مقترحات حل لجملة المشكلات التي تعاني منها المجتمعات والثقافات والدول في علاقاتها مع بعضها البعض، بعدَ أن أصبحت هذه مشكلات عالَميَّة، وليست محليَّة فحسبُ؛ وأخيراً بناء السبل والجسور التي من شأن الأنسنة، أنسنة وجود الإنسان في العالَم. إنَّ الأنسنة طريقٌ أخلاقية، أو لا تكون.
إنَّ الأخلاقية تتضمَّنُ أنَّ الخيرَ والشرَّ عالميَّان على الدوام. ولا يمكن إلاَّ أن يُؤخذا على نحو أنَّ لهما وظيفةً في المعرفة، وإنتاجها. المعرفة المُتَّجهة نحو الإنسان العالَمي في كل الأحايين. لكن ما هي هذه الوظيفة؟ وكيف تتجسد في الفعل المعرفيّ بعامَّةٍ؟ تتمثَّل هذه الوظيفة في الربط بين مفهومين على نحو واسع، في الحقول المعرفيَّة الحديثة، في كليتها:
الأول مفهوم وحدة العالَم، أي القائمة على وحدة تصوُّر العالَم، بوصفه واحداً؛ من جهة اتحاد العالَم مع ذاته، عَبرَ جملة الأفعال والأفكار الأخلاقية التي تتجسد في المعرفة على نحو المفهوم، أو النظريَّة، والثاني هو مفهوم حدود التعدُّد في وحدة العالَم، وترسيم الحدود الأخلاقية والإنسانية، عَبرَ مفاهيم الأنسنة (الذاتيَّة على نحو معرفي- الفردانية على نحو اقتصادي- الحُرِّيَّة على نحو ثقافي وسياسي).
[VI]
بناءً على ذلك، فإنَّ المعرفة العِلميَّة الحديثة وما بعد الحديثة، وصولاً إلى المعرفة الدقيقة، لا أقصد المعرفة في العلوم الطبيعية والصلبة، بل تلك التي تخصِّصُ موضوعَها في كلِّ مرَّةٍ، على نحو التمييز بين طبقات الموضوع، ومستوياته، وأصعدته المختلفة، على نحو مفاهيم الفلسفة وعلوم المجتمع والإنسان، بلوغاً إلى مستوى معرفة ما بعد السايبر، التي تُتصوَّر، على نحو خاطئ، على أن لا أخلاق لها، ولا أنسنة فيها، هي، أي المعرفة الدقيقة، تستمد ماهيتها، وتحدِّدُ حقلَ وجودها، وتنطلق من بداهاتها العِلميَّة- والأكاديمية، من خلال وعي ماهيَّة الإنسان على نحو جديد؛ الإنسان وقد صار إشكاليَّة قائمة برأسها. ولكن مرَّةً أخرى: ماذا نعني بأن إشكاليَّة الإنسان هي في الحقيقة، على نحو جذري، تعيد تعيين ماهيَّة المعرفة، والإنتاج المعرفيّ؟
الأمر يرتبط بالثورة في مفهوم الإنسان ذاته؛ فإنه لأوَّل مرَّة، في اللَّحظة المعرفيَّة الأولى لفهم صيرورة المعرفة، بعد القرن الثامن عشر، إلى بداية الخمسينات من القرن المنصرم، كنَّا أمام الإنسان مأخوذاً على أنَّه ذاتٌ عقليَّة (تنطلق من المنطق الحديث في تعيين الحقيقة، حقيقتها هي قَبلَ أي حقيقة أخرى، الحقيقة وقد أُخِذَت على نحو صوابية القضية)- وعقلانية (تنطلق من نزعة عَقْلَنَةِ الوجود في العالَم، أي جملة الضروب الاستنباطية في فهم العلاقة مع العالَم على نحو قاطعٍ مع الميتافيزيقا الدينية). اِنسحب ذلك، في اللَّحظة المعرفيَّة الثَّانية لفهم صيرورة المعرفة، إلى الفترة الفاصلة ما بين بداية الخمسينات من القرن المنصرم إلى الـ [ههنا- والآن] أي ما بعد الثورة السايبرانية، وإعادة تحديد الإنسان على أنَّه رقم. هكذا، أصبحنا أمام المجهول الذي لا يمكن أن يُفهم من الداخل؛ من داخل الفوضى المعرفيَّة التي أنتجتها المؤسسات السايبرانية. فماذا نفعل؟ ننفتح على ضروب التعدُّد في تعيين الإنسان من جهة كونه كائناً تقع الفوضى في موقع النقيض الأصليّ إزاءَه. وذلك يقوم على قلق الكينونة. أعني على قلق إعادة تنظيم العالَم على نحو إعادة عقلنة العلاقة مع العالَم على نحو العقل العلميّ الصارم، والذي لا يجامل أحداً أو جهة في إعادة الاعتبار للذات العاقلة، والفاهمة، مأخوذةً على أنَّها واعية (حاكمة بالفهم بَعْدِيَّاً، لا قبليَّاً) ضمن حقول الوعي الفلسفيَّة والعلمية، على نحو أكاديمي جديد؛ أو لا تكون.