ميثم الخزرجي
إن التاريخ البشري على اختلاف مراحله الفكريَّة والعقائديَّة يخضع لقراءات عديدة تتمحور غايتها حول المضامين القيميَّة والأخلاقيَّة، وما يتمخض من نزعات إنسانيَّة معنيَّة بالفرد نفسه، لنستكشف عن طريق هذه المراحل الزمنيَّة بحمولتها المعرفيَّة وتحولاتها الأيديولوجية البنية المكونة لطبيعة الإنسان، بل من الممكن أن نستحضر عوالمه النفسيَّة على وفق اعتبارات أوانه الحالي ومكانه المستقرّ عنده، وقد يكون استقراؤنا له ناجما عن التطور المصاحب للغة الماكنة ومستجدات العالم التكنولوجي وتأثيرها في سلوكه العام ورؤيته للعالم وطريقة تعاطيه مع الأسئلة الكونيَّة التي تعنى بماهية وجوده لتسعى إلى استحداث منظومة مفاهيميَّة تؤصل لواقع بجميع لبوساته.
ولعلّي أجد أن حقيقة الإنسان وجوهره يكمنان في النزوع الجاد في كيفية إدارة شأنه بعيدًا عن سطوة الآخر. لكن ماذا عن مستحدثات العصر التكنولوجي التي جعلت الكائن البشري يشعر بالعجز في رسم مساره الصحيح؟، وهل أن الطقس المعلوماتي الذي اختصر كثيرًا من العراقيل وبدد مناسيبها له أثره الواضح على المنظومة العقلية المصاحبة له من حيث استجلاء مصيره وتعيين وجوده وقيمته الفعلية أزاء هذا الاغتراب الذي يعيشه؟، وهل هو فعلًا يعيش في دوامة من الاغتراب؟، على الرغم من انفتاح نوافذ العالم عبر برامج التواصل الاجتماعي، وهل أنّه يحارُ في البحث عن دوره بوصفه كائنا فاعلا له القدرة على أن ينظّم حياته إمعانًا لمتغيرات الواقع ومآلاته الكثيرة؟، أم أنّه يجاهد من أجل العيش بأمان وأن يجد له زاوية في هذا الكون المعبّأ بالصراعات الاثنية والتخبطات السياسيّة؟، ماذا لو أصبحت الدوائر الخدمية والمعامل الانتاجية بل حتى الصنوف الهندسيّة التي تُعنى بالجانب العمراني والميكانيكي تحت سيطرة الروبوت ويوجه عن طريق مقود ذكي، ما دام المحرك البرمجي يتخطى مسافات مهولة في تصدير تقانات جديدة تشكّل حيزًا كبيرًا في إيفاء الغرض؟، هل يجد الكائن البشري بعد هذه المستحدثات مكانًا دالًا يستطيع أن يضيء وجوده؟، أم نعدّه مادة عابرة ثانوية لا حاجة لها إلا كونها متمثلة بالتصريح أو إعطاء وجه نظر خافتة؟، هل أن الإنسان الحالي صار مستعمرًا من برامجيات فخمة تدار من جهات تقنية عالية باستطاعتها أن تتحكم بمقدراته وتتدخل في جميع التفاصيل التي تعنى به؟، هل ما زال الإنسان يصرّ على خصوصيته؟.
واقعًا، أجد أن هذا العصر هو عصر ذكي بصناعات تحاكي الذهن وتستكشف القدرات العقلية الكبيرة عن طريق استعمال الحزم البرمجية التي تُحَوّل فيما بعد إلى تطبيقات تنفيذيّة باستطاعتها أن تُسهم في تقديم خدمات مهمة للعالم في كيفية إزالة المعوقات والمصاعب التي تصل الكائن البشري وهذا ما نلاحظه جليًّا عبر الابتكارات الحديثة التي اختصرت طرقًا واجترحت مسارات من الخيال لتودي بها على أرض الواقع، فما عاد الإنسان مكبلًا بالوقت والمكان أو محددًا بأمور تحدّ من قابليته للوصول إلى مبتغاه، وقد لمسنا ذلك عبر الدراسة عن بعد والتحويلات المالية والمصرفية وما جاء بعدها من التقنيات الذكية التي انهمكت في تعيين السمات البشريَّة من ناحية الصوت والصورة بل حتى على المستوى الذهني مجسّدة ذلك بالرجل الآلي وهذا ما شاهدناهُ من خلال توظيف روبوت في برامج إذاعية أو تلفزيونية، أو عن طريق برامج تبدي استعدادها لكتابة أطروحات جامعيَّة، أو ما يتعلق بالمشاريع الجمالية مثل الشعر أو السرد وما تلا ذلك في تحليل النصوص الأدبيّة وتفكيكها على وفق ما تستوعبه من بيانات لتعطي نتائج تستبين مضمرات المتون. كل هذه العمليات مورست في الوقت الحالي وبان أثرها واضحًا على الوعي الجمعي للمجتمعات، بيد أني أزاء سؤال مهم يستقرئ أصالة الإنسان وبيان مقدرته ووضوح معالمه حيال هذا التصعيد البرمجي والمعلوماتي المهول، وعن كيفية التعاطي مع مستجدات العصر التكنولوجية في حال لو استمكنت من مقدرته الذهنية، ما الذي سيحل بالجنس البشري فيما بعد؟، وكيف يكون مآله؟، وما هي مزاياه الإنسانية ودخيلته الجوّانيّة المتعلقة بالمشاعر والأحاسيس؟، وبأي اتجاه من المفترض أن يسير؟، هل يخلص لجوهره ويظهر بمفرده في هذا العالم الضاج؟، أم يكون مجرد دمية مستلبة العقل لا تستطيع أن تستنهض قدرتها الفكريَّة والمعرفيَّة؟.
حقيقة الأمر، أن الدعوة إلى انحسار الطقس المعلوماتي بات من المستحيل، فقد رافق هذا التطور جميع مفاصل الحياة وأصبح جزءًا لا ينفصل عن واقع الإنسان وبراغماتية الجهة المنفذة المعنية في إقرار الأفكار وتنفيذها فيما بعد، وهنا يكون التماهي مع هذه الامكانيات العلمية أمرًا حتميًّا - لعله يكون كذلك- وقد تتباين الكفاءة الذهنية التي تعنى بجاهزية الجنس البشري على استعداده من التقليل أو العزوف من نشاط هذه التقانات، لكن هل باستطاعته أن ينخرط في الواقع ويتعاطى معه على وفق حيثياته هو بوصفه منظومة مستقلة من دون الرجوع إلى نشاط الواقع وفاعليته؟، أم أنه سيكون منعزلًا خارجًا عن محيطه داخلًا في كينونته ومعناه؟ وهذا أمر من الصعب تحقيقه أو تصديق مناله، كون الإنسان لا يستطيع أن يشكّل هويته المجتمعية حال التخلي عن أنساق المكان الحضارية وصورتها الثقافية، قد تكون ثمة بعض السياقات العامة التي لا يتعاطى معها لكنه من غير الممكن أن ينعزل ويرمم نظامه المعرفي على وفق معايير لا تمت للواقع بصلة، وقد تكون العملية تكاملية، تستوفي بنية المجتمع فيتكيف لبعض من التقانات التي تفرض من قبل وحدات علمية تابعة للدولة ومشكّلة على وفق جهاز استقصائي معني بالمجتمعات نفسها ليكوّن مسارًا خاصًا به، المحير في الأمر، هل أن هذه التهيئة المقننة للواقع وما حواه تصمد قبالة ما يدور في ماكنة العالم الجديد؟، لذا من الضروري أن نشير إلى الخطر الذي تتعرض له الهوية الإنسانية منوّها إلى طبيعة الزخم التكنولوجي الذي ينزع نحو التشكيك في مصير الكائن البشري وتظليل حقيقة وجوده وصفاته القيميَّة، فما عاد الإنسان يشكّل الرهبة التي تقيّد فاعلية الموجودات فقد اجتزأ جوهره وبانت خصوصيته، وزعزع معناه جراء مستحدثات القادم التقني التي خطّت سياقه على وفق محدداتها ليصبح مقادًا لها، فيكون ثمة تأسيس يعنى بخارطة الفرد الحياتية ونظامه المعرفي وقد يستجد هذا النظام تبعًا لهيكلية الأوان العلمية وما يتراءى لنا من جديد.