علي العقباني
بين الرواية والسينما علاقة تداخل وأخذ وعطاء وتنافر واختلاف بالرغم من الفائدة التي قدمها كل منهما للآخر منذ نشأة فن السينما حتى اليوم، وخاصة في ما يتعلق بالزمن و الشخصيات، نحن هنا إزاء عالمين مختلفين في بنى السرد وآليات الكتابة والوصول والتلقي، والأهم من كل ذلك هو شخصيات الرواية المتخيلة عند القارئ بجميع أبعادها والتي تجسدها السينما ملموسة ومحسوسة وذات أبعاد، فشخصية "زوربا" الشهيرة في الفيلم المأخوذ عن رواية "زوربا اليوناني" لنيكوس كازانتزاكيس ورقصته المشهورة التي أداها الفنان العالمي "انطوني كوين".
وبالرغم من تحقيق الفيلم والرواية شهرة عالمية كبيرة، إلا أن الانقسام بين محب للفيلم ومعجب بالرواية بقي حتى اليوم، والحقيقة أن ذلك ليس انتقاصاً من أي من الفنين العريقين وإنما زاوية الرؤية والمشاهدة والقراءة وآليات التلقي والخيال وغيرها من الأشياء هي التي تجعل هذا الفرق أو الاختلاف قائماً، وهذا ما جعل الكثير من كتاب الرواية يصرخون في صالة السينما: هذه ليست روايتي، وربما يقول البعض – بالرغم من تحفظي على ذلك إلى حد ما- إن الرواية والأدب عموماً يتوجهان إلى جمهور خاص، بينما تتوجه السينما إلى الجمهور
العام.
وبين هذين الجمهورين اختلاف كبير في الذائقة وطبيعة التلقي.. بالرغم من أن هناك روايات كثيرة تخالف توقعاتنا في الانتشار وفي نوعية وطبيعة الجمهور الذي يقرأها وربما مثالي هنا ينطبق على سلسلة "هاري بوتر" الشهيرة للكاتبة جوان كاتلين رولينغ، التي أصبحت سلسلتها الروائيّة ظاهرة فريدة في عالم الكتابة والنشر والتوزيع وعبور الآفاق، فقد تُرجمت إلى ما يزيد على 65 لغة و بيع منها قرابة 800 مليون نسخة، وتحوَّلت إلى أفلام سينمائية تحظى بنجاحات غير مسبوقة وذلك على الرغم ممّا أثارته معظم تلك الأفلام من ردود متطرفة وصلت حدّ اتهامها بتشويه الروايات، وفي الإطار ذاته شكل فيلم "ذهب مع الريح" المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته لمارغريت ميتشل، علامة فارقة في تاريخ السينما العالمية، فمن خلال الفيلم تعرف الجمهور على شخصيات الرواية مجسدة من لحم ودم وملامح، وخلق لديه تلك المقارنة بين ما تخيله وما شاهده على الشاشة، ويمكن الاشارة هنا إلى عملية التبادل بين العملين "الرواية والفيلم"، فقد استفاد كل منهما من الآخر في الشهرة
والانتشار.
من تلك الأفلام ما شكّل فتوحات في تاريخ السينما، وتخلّد في ذاكرة الجمهور: «ذهب مع الريح» عن رواية بالاسم نفسه لمارغريت ميتشل، حيث تعرّف جمهور السينما على الشخصيات الأدبية التي قرأها وتعرّف عليها بين دفّتي كتاب تتجسّد أمامه شخصيّات من لحم ودم، فكان قرن القراءة المتخيّلة المؤولة بالصورة المجسّدة التذاذاً مركباً خلقه وأضفى عليه نجاح الصورتين وتكاملهما
معاً..
شخصياً لا أرغب ولا أتعامل مع السينما والرواية بمنطق الأفضل، لكني أنظر لكل فن من زاويته ومن زاوية المتعة والفائدة والجدة التي قدمها في بناء الشخصيات والحياة والسرد وغيرها من العوالم التي تفارق فناً عن آخر، ولا سيما خذلان خيالي متصور إحدى الشخصيات هنا ورؤيته مغايراً في الأخرى، ذلك أن لكاتب السيناريو والمخرج معطيات وتصورات أخرى غير تلك التي في ذهني وذهن كاتب الرواية أيضاً، ذلك يذكرني على سبيل المثال بما فعله د. عبد السلام العجيلي، إذ إنه رفض مشاهدة فيلم «باسمة بين الدموع» المأخوذ عن روايته الشهيرة، لأنه سمع عن هذا الفيلم ما يكفي للشعور بالخيبة، بسبب الفرق بين أناقة الحب في الكتابة، وسذاجته وسفاهته على الشاشة، فقط لأنه سمع، وذلك حدث مع آخرين أيضاً، وسبب ذلك برأيي النرجسية الروائية العالية التي ترفض تبديل أو تعديل أو إضافة أو حذف، وكذلك الفرق بين المجسد أو المشخص كواقع وبين الخيال في الرواية.
ذات يوم عبر الكاتب أمبرتو إيكو عن موقفه من تحويل روايته "اسم الوردة" إلى فيلم سينمائي أنتج عام 1986، وهل يرى في ذلك خيانة، بقوله: إن التغيرات التي ستطرأ على الرواية عند تحويلها إلى فيلم طبيعية ومحتومة، ذلك أن انتقال الأفكار من فن إلى فن آخر أي من الرواية إلى الفيلم ستكون طبيعية وضرورية لاختلاف النوع وآليات التعبير، وبكل بساطة فإن إدراك ايكو لهذا الأمر جعله يتخذ موقفاً عقلانياً إزاء ذلك ناظراً إلى الأمر بأنه سيكون من عمل شخص آخر مختلف
عنه.
عربياً تبدو المسألة أكثر تعقيداً وإشكالية من السينما العالمية، فبالرغم من أن عملية الاستلهام أو النقل أو التحويل من الرواية إلى الشاشة في السينما العربيّة قد بدأت عمليّاً في العام 1930 عندما قدّم المخرج محمد كريم فيلماً صامتاً عن رواية «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل ثم عاد العام 1952 وقدمها مرة أخرى من خلال فيلم ناطق، واستفادت السينما العربية لا سيما المصرية والسورية استفادة كبيرة من الرواية، وقد تعامل كتاب كبار مع السينما من خلال العديد من أعمالهم الأدبية ومنهم : نجيب محفوظ، يوسف إدريس، احسان عبد القدوس، توفيق الحكيم، وعلاء الأسواني وصنع الله إبراهيم من مصر، وخيري الذهبي وحنا مينا من سوريا ومحمد شكري من المغرب، وغسان كنفاني من فلسطين، وفي المجمل أرى أن على السينما العربية دوماً تطوير نفسها من خلال الأعمال الأدبية اقتباساً وسرداً وحكاية ما يساعد كلا الفنين على البقاء والتطور والحضور.