العِراقُ.. على قيدِ الحُسين
رحيم رزاق الجبوري
حين تشرع بالكتابة عن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء، وغريب الغرباء، وثورته العظيمة، وخصاله وشمائله. [3 شعبان 4 هـ - 10 محرّم 61 هـ] لا بُد لك أن تستحضر طاقتك وأفكارك وخزينك المعرفيّ، وتتسلح بالمهارة والقدرة على صياغة أبلغ الكلام وأجزله من أجل انبثاق فكرة ما تبتدئ بها مقالتك، لكنك في نهاية المطاف ستخفق - حتماً- وستجد كلماتك وحروفك فقيرة وشحيحة وغير معبّرة، ولا تقترب قيد أنملة من وصف هذه الشخصية العظيمة وثرائها الكبير.
إذ ستحاصرك المصيبة والفاجعة من كل جانب، وتعجز عن بلورة وإحاطة المواقف والأحداث التي حصلت في معركة الطف، وستتيقن بأن كل ما كتبته لا يلامس شيئاً يسيراً عنه بأبي وأمي. وهذا الفعل ينطبق على جميع العراقيين المواظبين بكل مذاهبهم وطوائفهم وشرائحهم على خدمة سيدي ومولاي سواء كان في تنظيم وإقامة العزاء الحسينيّ خطبة، ومأكلاً، ومشرباً، ووعظاً وإرشاداً، فضلاً عن أولئك الأدباء والباحثين والكُتّاب الذين يتناولون مصيبته وترجمتها لنص شعري أو أدبي. فحين تخاطب الجميع بذلك، تنطلق من أفواههم كلمات ممزوجة بالدمع والجزع تصف خجلهم وضعف وتصغير شأنهم، عطفاً على ما يقدّمونه من خدمات مختلفة مواساةً وتعزيةً وتعظيماً وتقرباً لأهل بيت النبوّة (عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم).
ولهذا تؤكد لك هذه الأفعال والمواقف وبضرس قاطع بأن العراقيين يذوبون حبّاً في عشق هذا الإمام، وعلاقتهم به تتعدى كونه إماماً معصوماً، بل يقرنون اسمه ببلادهم، ويردّدون بشغفٍ وحبٍّ دائمين: العراق.. على قيد الحُسين.
ارتباط قديم
ويرى إبراهيم رسول (كاتب وناقد) أن: "للحسينِ (ع) في نفوس العراقيين الكثير من العاطفة التي ترتبط بحالة الفجيعة والطريقة التي قُتِلَ فيها على أرضِ العراق"، مشيراً إلى أن "هذا الارتباطً قديم بالحسين ويعود إلى أيام خلافة الإمام علي (ع)، ومنه تكوّنت لأتباع أهل البيت قاعدة قوية في العراق، إلا أنه بقيَ محافظاً على تجدّده وكأنّه بالأمسِ القريب؛ بسبب حالة القصور التي يستشعرها العراقيون تجاه نصرة الإمام الذي ذُبِحَ على أرضهم، وبقيت مرتبطة بالظلم والقهر والقمع الذي تعرّضوا له طوال التاريخ، فالمظلوم بحاجةٍ إلى عقيدةٍ دينيةٍ تسدّ له الفراغ الذي يحسّه، فيلجأ إلى التشبث بأيِّ شخصيةٍ حقيقيةٍ أو حتى أسطورية لتخفّف له هول الجرح النفسي العميق الذي يعاني منه".
طبيب نفسي وروحي
ويتابع: "ومن هذا المنطلق، ارتبط العراقيون بالإمام الحسين (ع) كونه رجل ثورة وقوّة وعقيدة، فترسّخت عقيدتهم به حتى جعلوا منه الطبيب النفسي والروحي لنفوسهم المليئة بالحرمان والقهر. وهذا القولُ قد يصح في أوقاتٍ تاريخيةٍ ما، إلا أننا نجد هذا القول يبدو واهنًا والحالة الواقعية الجديدة التي يعيشها العراقيون بعد التغيير الذي حصل في عام 2003، إذ أصبحوا في حريةٍ تامةٍ ولهم مستوى اقتصادي جيد وأحوال معيشية قد تغيرت، إلا أن الارتباط بالحسينِ بقيَ في الحرارة ذاتها واللهفة وبقيت الطقوس التقليدية هي ذاتها".
وجدان حيّ
ويختم رسول حديثه مؤكداً أن: "هذا الارتباط، هو ارتباط روحي عظيم، كون الحسين(ع) قد جمع كل الصفات التي جعلته يبقى باللهيب الشعوري الحي ذاته في نفوس الناس، وتحوّل بتراكم السنوات الكثيرة إلى عقيدة مترسّخة يصعب زوالها تحت أي ظرف، فالحسين يعيش في نفوس وأرواح العراقيين بصورة دائمة كونه يمثل الوجدان الحيّ الذي لم ولن يموت أبدا".
عدالة وزهد ونزاهة
بينما يقول إبراهيم كمين الخفاجي (كاتب وقاص): "مذ كنت طفلاً، أذناي تلتقطان من الشفاه الأسرية، ومن المجالس الصغيرة ومن ثم الكبيرة، أستمع وأخزن الأحاديث عن عدالة وعدل وزهد ونزاهة الإمام علي، وأستمع ما يُروى عن واقعة ومقتل الإمام الحسين من أجل الوقوف بوجه الظلم والطغيان والفساد السلطوي والاستحواذ على الأموال العامة أو ما يُعرف ببيت المال من قبل فئات سلطوية تعيش الملذات والترف والبطر على حساب أغلب فئات المجتمع. وكلما أتحوّل من مرحلة عمرية إلى أخرى أعزز رصيدي المعرفي عن هذين الرمزين، وبدأت باقتناء المصادر، وبعدها سافرت والتقيت بمشارب وملل ونحل وأديان، والذي أبهرني أن كل الذين التقيتهم واستمعت إليهم أو قرأت كتبهم، يجمعون على عدالة وزهد ونزاهة علي بن أبي طالب وعن موقف الحسين بوجه الظلم والطغيان".
عيون التاريخ
ويضيف: "ورأيت في هذا ما يجعل المهمة الملقاة على عاتق من يحكم باسمهم مهمة صعبة. وأعني بصعوبتها، هو أن تتطابق الولاءات والشعارات والأقوال مع الأفعال على أرض الواقع، فالتاريخ له عيون وله أفواه وله ألسن. ويدون كل صغيرة وكبيرة وكل شاردة وواردة، ومهما كانت العواطف تتسامح أو تتغافل عمن يستخدم البيان والبلاغة والشعارات والشعائر عبر الأقوال، فلا بد أن تكون لحظة المطالبة بالأفعال صارمة خصوصاً أن رمز وكاريزما العدالة والزهد والنزاهة والمساواة لم يكن له قرين في المرويات الإسلامية، وكذلك الحال مع كاريزما التضحية من أجل محاربة الظلم والطغيان والاستحواذ والفساد".
محكمة التاريخ
ويختم الخفاجي حديثه، مطالباً كل من تسمح له فرصة الوصول إلى السلطة أو أي مركز تنفيذي وتشريعي: "أن يباشر فوراً بتطبيق منهج الإمام علي حرفياً، وأن يضع نصب عينيه منهج الحسين حرفياً، ومن لم يطبق هذين المنهجين سيقف عاجلا أو آجلاً أمام محكمة هذين المنهجين الإنسانيين وأمام محكمة التاريخ التي لا ترحم".
نهج مستقيم
وفي السياق ذاته، يشير د. أثير الغزي (كاتب وقاص وأكاديمي) إلى أن: "العراقيين من (أتباع أهل البيت) هم من التزم بوصايا رسول الله (ص)، وهم من سار على نهجه وتنفيذ وصيته التي وردت في خطبته في يوم الغدير". ويضيف: "لذا تجد نظرة العراقي المثقف (من أتباع أهل البيت) نظرة عقدية ذات ارتباط وثيق بالمنهج والمسار الصحيح الذي خطّه النبي (ص)، وعلى ذلك النهج المستقيم المتتابع للأئمة (ع) يقيسون؛ فيفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم. لذا تجد العراقي في بيعة الغدير (عيد الله الأكبر) يبتهج لكمال الدين وتمام النعمة، وفي ولادات الأئمة (ع) يُظهر الفرح مبتهجًا، وفي الروح العقائدية نفسها تجده كذلك يُظهر الحزن بذكريات الاستشهاد وخاصة في أيام شهر محرم وصفر، لما لهذين الشهرين من خصوصية عند الأئمة المعصومين (ع) ومن قبلهم عند المصطفى (ص)، لأن في شهر محرم حدثت واقعة كربلاء وفيه قد سُبيت حرم الرسول الأعظم (ص)، لذا تجد (أتباع أهل البيت) في العالم كله يستحضرون صاحب هذا المصاب وأهل بيته وأصحابه، فيقيمون المجالس على محبتهم".
سنة نبويَّة
ويكمل: "لم تأتِ هذه المحبة والموالاة عن فراغ، بل هي نابعة من سنة النبي الأكرم (ص) ومن كمال الدين وتمام النعمة، كما نصت على ذلك العديد من الروايات والأحاديث ومنها: خطبة الغدير، وحديث الثقلين، وحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ورواية أم سلمة (رض)، ورواية القارورة، وبكاء النبي (ص) في مواضع عديدة لما سيحدث للإمام الحسين (ع) في كربلاء. فالعراقيون من (أتباع أهل البيت) وفي أيام شهر محرم وصفر؛ تجدهم يستذكرون مصاب إمامهم الحسين (ع) وسبي السيدة زينب (ع)؛ وهذا الاستذكار عندهم سنة نبوية نابعة من صلب العقيدة المحمدية، أضف إلى ذلك خصوصية مرقد الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (ع) في كربلاء، لذا تجد العراقيين إضافة لإقامتهم مجالس العزاء فإنهم يقدمون الخدمات للزائرين الوافدين من كل بقاع الأرض، حتى أصبح الكرم العراقي مضربًا للمثل، ويشهد بذلك كل منصف قدم نحو كربلاء".
النهضة الحسينيَّة
ويمضي الكاتب بالقول، منوهاً بأن: "التلاحم والأخوة واليد الواحدة، كلها نتاج النهضة الحسينية. فلا اسم يعلو فوق اسم الإمام، والجميع هنا في العراق متحدون تحت رايته، فهم يستقبلون ويضيفون جميع القادمين وإن كانوا من ديانات وعقائد أخرى، وتجد كلمات وعبارات العراقيين المشهورة في تلك الأيام: (هلا بالزاير، استريح يا زاير، عساك ما تعبت يا زاير، تريّگ يا زاير، الغدة حاضر يا زاير، اگعد تعشّه يا زاير، اشرب چاي أبو علي يا زاير، بات يا زاير) فبيوتهم مفتوحة وكل ما يحتاجه القادم عراقي وأجنبي متوفرة، وتُقدم الخدمات بلا ملل، ويُسمى من يُقدم الخدمة بـ(الخادم)، وهذا شرف عظيم، شرف الخدمة الحسينية، فكل شيء طاهر تجده في تلك الأيام مرتبط بالحسين (ع)".
المنبر الحسيني
ويختم الغزي، مداخلته مؤكداً أن: "تلك الروح الذائبة في محبة أهل البيت (ع) ما هي إلا نتاج التربية الأسرية والمنبرية، والحقيقة تُقال، إن المنبر الحسيني له الدور الكبير في تنشئة الأجيال وتوعيتهم، وعلى وجه الخصوص في القضية الحسينية".
الحُسين هو العراق
ويتحفنا (أستاذ اللغة العربيّة في كلية الآداب- جامعة بابل) د. فارس الحسيني، بأبيات شعرية معبرة وصادقة، يتناول فيها السر والترابط الكبيرين، بين العراقيين والإمام الحسين (ع)، إذ ينشد، قائلاً:
في كُلِّ بَيتٍ عالِيًا لَكَ بَيرَقُ
وَعَلى مَصارِعِكَ القُلُوبُ تُحَلِّقُ
يَبقى الحُسينُ عَلى الزَّمانِ مُخَلَّدًا
ما دامَ لِلأَحرارِ قلبٌ يَخفِقُ
تُشفى الجِراحُ مَعَ الزَّمانِ، وجُرحُهُ
أَبَدًا يَطُولُ بِهِ الزَّمانُ فَيَعمَقُ
لا صَوتَ أَرفَعُ مِن دِماءٍ تَغتَلي
لا قَوْلَ أَبلَغُ مِنْ عِظامٍ تَنطِقُ
يَبقى الحسينُ لَنا مَنارًا شامِخًا
هَوَ عِبرَةٌ في عَبْرَةٍ تَتَرَقرَقُ
هُوَ وَحْدَةٌ لا قِسمةٌ وتَشَتُّتٌ
أَبَدًا، وَلا هُوَ أُمَّةٌ تَتَفرَّقُ
إِنَّ الحُسينَ هُوَ العِراقُ مُجَسَّدًا
أَضحى يُقَطَّعُ جِسمُهُ ويُمَزَّقُ
يا سَيِّدَ الشُّهَداءِ أنتَ سَفينةٌ
لِنَجاتِنا، أنى بِحُبِّكَ نَغرَقُ
سَرَقُوا الكُنُوزَ بِجَيبِهِمْ لَكِنَّما
فِيكَ المَحَبَّةُ كَنزُها لا يُسرَقُ
يُذري الجَنينُ على مُصابِكَ دَمعَهُ
وَيَصيحُ بِاسمِكَ كُلُّ طِفلٍ يَشهَقُ
العراقُ هو الحُسين
إِنَّ العراقَ هُوَ الحُسينُ مُجَسَّدا
لا تَقطَعُوا رَأسَ الحُسينِ مُجَدَّدَا
لا تُشرِكُوا -أَبَدًا- بِوَحدةِ أَرضِكُمْ
مُوتُوا عَلى جَسَدِ العراقِ مُوَحَّدا
لا تَقطَعُوا أَوصالَهُ، فَعِراقُكُمْ
شَرَفٌ لَكُمْ يَبقى، ولَن يَتَبَدَّدا