هناء العبودي
الإمام الحسين لم يعد رمزاً لطائفة معينة فحسب ولا حتى للمسلمين وحدهم، بل هو رمز إنساني رفيع، كان وسيظل أجمل وأطيب وأنبل جملة في تاريخ الإنسانيَّة، وليس بالإسلام فقط وإنما للإنسانيَّة جمعاء.(ملحمة كربلاء) التي تحولت بتقادم العهد عليها، إلى مسيرة..
وكيف صارت الشهادة التي أقدَم عليها الحسينُ عليه السلام وآل بيته وصحبُه الأطهار، إلى رمزٍ للحق والعدل، وكيف صار الذبيح بأرض كربلاء، مَناراً لا ينطفئ لكل متطلعٍ باحثٍ عن الكرامة التي خصّ بها سبحانه وتعالى خَلقَه بقوله: «ولَقَد كرَّمنا بَني آدَمَ»؟! والسيرة العطرة لحياة سيّد شباب أهل الجنة واستشهاده الذي لم يسجِّل التاريخ
شبيهاً له.
كان ولا يزال (عليه السلام) عنواناً صريحاً لقيمة الثبات على المبدأ، وعظمةِ المثاليَّة في أخذ العقيدة وتمثُّلِها، فغدا حبُّه كثائرٍ واجباً علينا كبشر، وحبُّه كشهيدٍ جزءاً من نفثات ضمائرنا. فقد كان الحسين عليه السّلام شمعة الإسلام، أضاءت ممثِّلةً ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وكان درعاً حَمى العقيدةَ مِن أذى مُنتهكيها، وذبَّ عنها خطرَ الاضمحلال، وكانت شهادته فوق أرض كربلاء مرحلة أُولى لاشتعالٍ أبديّ، كمَثَل التوهّج من الانطفاء، والحياة في موت.
ونظرة واحدة إلى الملايين المؤمنة من البشر التي تؤمّ قبر الحسين ومزارات آل البيت «ع» في كلّ مكان، لَكافية كي تدعم الرأي بتعاظم قوّة العقيدة وتمكّنها من النفوس، ورغبةِ المؤمنين في أنْ تظلَّ لقتل الحسين حرارةٌ متأجّجة لا تبرد في قلوبهم أبداً.. طالما هم مؤمنون، وصراطهم مستقيم. فكيف سيكون ما كان، لولا الذي كان من استشهاد سيّد شباب أهل الجنّة، وإزهاق الباطل الذي عبّر عنه القرآنُ الكريم بقوله: إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً؟ وكيف كان وسيكون، مِن خَلْق هذا الشهيد لولا اختيار العناية الإلهيَّة له، ولولا تعهّدُ جَدّه النبيّ الأكرم بتنشئته تنشئةً نبويَّة؟ فارتقت إنسانيّته إلى حيث نبوّة الجَدّ «حسينٌ مني وأنا مِن حسين»، (واصطفّت) نبوّة الجدّ إلى حيث إنسانيّته «حسينٌ منّي». ولا عجب في ذلك، فالحسين ـ في هذا ـ وَرِث خصائصَ جدّه من حيث الغَيرة على الدِّين، والاستعداد لبذل ما هو غالٍ في سبيله.
وقول الرسول: «حسينٌ منّي وأنا مِن حسين»، و«اللهمّ أحِبَّه؛ فإنّي أُحبّه» فيهما شهادةٌ وتكليف: شهادة بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قد عَهِد براية الإسلام الذي أُنزِل عليه إلى سِبطه الحسين الذي هو بضعةٌ منه. وتكليف: للابن الذي أحبّه الرسول وطلب من ربّه أن يُحبّه، بالاستشهاد صَوناً للعقيدة، ودفاعاً عن روح الدين من العبث والاستهتار اللَّذينِ كادا يودّيانِ إلى اضمحلاله، فكانت هذه الشهادة وهذا التكليف هما العنوانَ الضخم والرمز الخالد لنهضة الابن في سبيل عقيدة الجدّ، حتّى استحقّ ـ عن جدارة ـ مغزى قولة: «الإسلام.. بَدؤُه محمّديّ، وبقاؤه حسينيّ». فالحسين البضعة الرسوليَّة، قام بمهمّةٍ لا تقلّ خطراً عن مهمّة جَدّه، فأبقى الإسلامَ كما بشّر به جدُّه الكريم، وأودع في صدور المسلمين وديعةً ثمينةً تنبّههم بوجوب الحفاظ عليها، كأندرِ وأغلى ما يملكون.
هي ثورة بدأت ساخنة، واستمرّت محافظةً على سخونتها.. طالما ثَمّة ظلمٌ فوق هذا الكوكب، وطالما ثمّة عبثٌ في العقائد. وهي ثورة لن تبرد أبداً، بل هي في غَلَيان دائبٍ، لا سيّما في هذا العصر، عصرِ الضَّنك والظلم والاضطهاد والترويع لشعوبٍ كثيرة، حيث انتُهِكت الحريّات، وبان جليّاً العبثُ في العقائد والأديان، بل واستغلال هذه الأديان في تثبيت المفاسد والانتهاكات البشريَّة. فالحسين عليه السّلام ثارَ مِن أجل الحقّ، والحقُّ لكلّ الشعوب. والحسين عليه السّلام ثار مِن أجل مرضاة الله، وما دام الله خالق الجميع، فكذلك ثورة الحسين لا تختصّ بأحدٍ معيّن، بل هي لكلّ خَلْق الله، المظلومين والمضطهدين والمقهورين والمروَّعين من كلّ المذاهب والبقاع.. يتوجّهون في كلّ رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين عليه السّلام، ففي اتّجاههم الفطريّ ورودٌ إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل والأمان.
لذا أكد المؤرخون أنَّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام أعظم ثورة إصلاحيَّة عرفها التاريخ البشري على سطح الكرة الأرضيَّة لأنها أحيت المبادئ والقيم المقدسة في نفوس وعقول الأجيال المتعاقبة، وأعطت الدروس المشرقة عن التضحية في سبيل القيم الإسلاميَّة والإنسانيَّة.
وتميزت ثورة الإمام الحسين «ع» بأنها حملت مشاعل النور والهداية لكل الناس، باسم الإمام الحسين اهتدى الآلاف من النصارى واليهود والهندوس والبوذيين إلى نور الإسلام، لأنهم وجدوا في شخصيته المقدسة القيم الأخلاقيَّة العالية كالرحمة والرأفة والعطف والعفو والمحبة والصدق والشجاعة والبطولة والتضحية من أجل الحق، ومن الأمثلة التي تدلُّ على رحمة وعطف ورقة قلب الإمام الحسين كما جاء في السيرة الحسينيَّة بكاؤه على أعدائه يوم المعركة في كربلاء، وعندما سُئل عن بكائه قال عليه السلام: ((أبكي على هؤلاء، سوف يدخلون النار بسبب قتلي).
إنَّ الإمام الحسين «ع» هو كنز الإنسانيَّة وقلبها النابض ورمـزها الخالد، ويوم عاشوراء هو درسٌ لنا جميعــًا ومعينٌ لا ينضب من العطاء نقتبسُ منه الدروسَ الإنسانيَّة والقيم الأخلاقيَّة التي لا بُدَّ أنْ نتخذها مبدأً لنا في الحياة لكي نعيش سعداء في الدنيا والآخرة.
الحسين «ع» هو نعمة الله العظمى للإسلام والإنسانيَّة (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) النحل، نعمة الله التي تسع كل مكان وزمان، لقد علّم الإمام الحسين التاريخ والأمة الإسلاميَّة والإنسانيَّة جمعاء دروساً عظيمة، فإينما وجد الفساد والباطل والظلم والقتل والإرهاب، كان الإمام الحسين «ع» حياً حاضراً يعلّمنا ما يجب علينا فعله. ستبقى ذكرى كربلاء باقية نصب أعيننا نستلهم منها الدروس والعبر، فسلام الله عليك يا أبا الأحرار، إذ قلت (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد).
فالسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.