نظرية الاحتواء المزدوج

آراء 2024/07/31
...

 جواد علي كسار

المفارقة أن لحظة الانهيار هذه قادت في واحدة من تبعاتها لعالم ما بعد الحرب الباردة في المنطقة، إلى ولادة سياسة الاحتواء المزدوج والإعلان عنها في شباط 1994م كسياسة رسمية للولايات المتحدة ضدّ العراق وإيران معاً، من قبل مارتن إنديك ضمن ندوة لمجلس سياسة الشرق الأوسط.

في 25 تموز الماضي أُعلن عن وفاة أستاذ العلاقات الدولية الأكاديمي والدبلوماسي مارتن إنديك، وقد مرّ الجميع على المناسبة باستذكار الرجل وربط اسمه بسياسة الاحتواء المزدوج لكلّ من العراق البعثي وإيران الثورية؛ إبّان عقد التسعينيات من القرن الماضي.

حقيقة الأمر أن سياسة الاحتواء المزدوج باتجاهها إلى محاصرة دولة أو دولٍ بعينها، بهدف إضعافها وإبقائها في حدودٍ جغرافية وسياسية معيّنة؛ ليست بالسياسة الجديدة بل هي بعيدة الغور في تأريخ السياسات العالمية، كما أنها ارتبطت في برهة العلاقات الدولية لمرحلة المعسكرين ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ باسم الأكاديمي والدبلوماسي الأمريكي جورج كينان (1904ـ 2005م). وما ثمة مجال للمقارنة قطّ بين مارتن إنديك وكينان من زاوية عمق الرؤية واتساعها، وكثافة الأفكار والوسائل والأدوات، بشأن سياسة الاحتواء.

فقد ارتبطت سياسة الاحتواء كما صمّمها كينان لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق بإطارٍ لم يبقَ حبيس الفكر النظري والأكاديمي، إذ سريعاً ما تبناها البيت الأبيض ونفذها على عهد إدارة الرئيس هاري ترومان (في الرئاسة: 1945ـ 1953م) ومن جاء بعده، إلى لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر عام 1991م.

انطلقت أمريكا والمعسكر الغربي بمقتضى تلك السياسة لاحتواء الاتحاد السوفياتي داخل مناطق نفوذه، عبر مقاومة التوسّع السوفياتي والحؤول دون انضمام قوى جديدة إليه؛ وإبقاء موسكو تحت الضغط الأمريكي والغربي المستمرّ، ما يجعل أي محاولة سوفياتية لكسر حصار الاحتواء مرتفعة الثمن، وهي تهدّد بحرب شاملة لم تكن موسكو مستعدّة لها قطّ.

يذكر أساتذة العلاقات الدولية ومنهم الأكاديمي العربي د. إسماعيل صبري مقلد، أن ترومان أضاف تبريراً أيديولوجياً إلى نظرية الاحتواء «الكينانية» هذه، عندما عدّ هذه الاستراتيجية ضرورة يقتضيها الدفاع عن الحرية والديموقراطية في العالم الحرّ كله، ضدّ التسلّط الشيوعي. هكذا سار الأمر، فكانت الأحلاف والتكتلات في حصار الاتحاد السوفياتي من لوازم هذه الاستراتيجية، كما كان التقدّم العسكري خاصةً في المجال الجوي رادعاً لموسكو، بالإضافة إلى الضغوطات الاقتصادية، وهو ما قاد نهاية الأمر إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.

المفارقة أن لحظة الانهيار هذه قادت في واحدة من تبعاتها لعالم ما بعد الحرب الباردة في المنطقة، إلى ولادة سياسة الاحتواء المزدوج والإعلان عنها في شباط 1994م كسياسة رسمية للولايات المتحدة ضدّ العراق وإيران معاً، من قبل مارتن إنديك ضمن ندوة لمجلس سياسة الشرق الأوسط.

كان الهدف هو إضعاف قوّة البلدين معاً، وتعدّ في وجه من وجوهها استمراراً للحرب العراقية ـ الإيرانية؛ فهناك إضعاف بالحرب وتبعاتها، وهنا بالحصار والعقوبات وما يترتب عليهما من دمار. أما المغزى فهو عدم ظهور أو تبلور أي قوّة في الإقليم أقوى من «إسرائيل». لكن هذه السياسة أخفقت تماماً وأدّت إلى انفراط كفتي الميزان، بصعود واضح لقوّة إيران، وأفول كبير لقوّة العراق؛ فهل كان ذلك مقصوداً؟!

على صعيد التجربة الشخصية هناك الكثير مما يلفت النظر في حياة مارتن إنديك اليهودي المولود في بريطانيا، المهاجر إلى استراليا ومع مطلع ثمانينيات القرن المنصرم إلى أمريكا. ولج مجال البحث السياسي والعمل في مراكز الدراسات بل وساهم في تأسيس بعضها في أمريكا، كما هو الحال في مركز مؤسّسة واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، قبل أن ينخرط في العمل مع وزارة الخارجية، ويحصل على الجنسية الأمريكية عام 1993م، ويكون له دور في العمل مستشاراً وسفيراً ومبعوثاً خاصاً، خاصةً في إدارتي بيل كلينتون وباراك أوباما. أصدر عدداً من المؤلفات بينها كتاب عن السياسة الناعمة على عهد أوباما وآخر عن هنري كسنجر، وثالث عن سيرته الشخصية وأوراق من حياته.

أخيراً رحل إنديك وبقيت آثار الاحتواء المزدوج تعمل ضدّ العراق، فهو اليوم يكاد يكون الحلقة الأضعف ليس بالمقارنة مع غريمه في المعادلة إيران، بل حتى بالمقارنة مع جميع بلدان المنطقة!.