الإعلام بين البحث والنسخ

آراء 2024/07/31
...

 سوسن الجزراوي


مع حلول عام 1990، كانت وسائل المعرفة وأدواتها تعلن عن ولادة أول محرك بحث بسيط في منظومة الانترنت، أطلق عليه اسم ( آرتشي )، وكانت الفكرة آنذاك من انشائه هي اتاحة الفرصة للباحثين من الطلبة وغير الطلبة، للعثور على ملفات معينة يحتاجونها، تعتمد في عملها على آلية الفهرسة بحسب محرك البحث غوغل.

ومع تقدم السنين، والتطور العلمي الحاصل في مجال البحوث، والتوغل في تفاصيل موثقة ومعلومات واحصائيات وأرقام، توالت ولادة أجيال أخرى من محركات البحث، كان من ضمنها ( غوغل.. بينج.. ياهو.. بايدو.. ياندكس ) والعديد من الأسماء الاخرى المصنّعة في شركات ذات سمعة واحترافية تقنية عالية مثل مايكروسوفت، ياندكس واخرى.

الكثير من محركات البحث هذه، تمت الاستفادة منها في مجال العمل الاعلامي، فالصحفي أو الكاتب، عادة ما يكون بحاجة إلى معلومات تدعم عمله وتساعده في تقصي بعض تفاصيل الموضوع مجال البحث.

وفي مقارنة صغيرة بين الصحافة في حقب الخمسينيات وحتى الثمانينيات، وصحافة اليوم من الناحية المهنية البحتة، نجد أن الكثير إن لم نقل اغلب الاقلام سابقاً كانت أكثر حرفية ونزاهة وتفاني، صادقة مع نفسها أولا قبل أن تكون صادقة مع من يقرأ ما تكتبه، فقد كان الوعي سيد الموقف وسمة الكتاب الذين لا يجيدون حرفة ( النسخ واللصق ) كما هو الآن! اذ كانت المهنة يليق بها تسمية ( السلطة الرابعة )، ولا انكر اطلاقاً على بعض شباب هذا الزمن، اخلاصهم ايضاً وحرصهم وكفاءتهم، غير أن الأعم صار يستسهل طريقة ((انسخ والزگ))، وحتى دون اجراء اي تعديلات على النص المنسوخ، وهذا يعد أولا سرقة لجهود الاخرين، وتعويد على الكسل والابتعاد عن الساحة والعمل الميداني من جهة أخرى.

نعم، اتفق أن هنالك بعض المراجع التي نحتاجها جميعاً في عملنا، ولكن لنكن امناء في الاشارة إلى المصدر على أقل تقدير!

وفي عودة لمحركات البحث ومهنة الاعلام، دعوني أتساءل : كم من الكتّاب يهتم وبجدية لمعرفة معنى اسم يقال أو معلومة مهمة أو حدث ما، فيسعى للدخول إلى عالم المحركات، باحثاً عن معنى هذه الكلمة، أو حقيقة ذاك الحدث، ولربما التأكد من احصائيات وأرقام ما؟. وكم من الاعلاميين، يبتكر موقعاً خدمياً عبر هذه المحركات البحثية، ليتيح لزملائه الاستفادة منه؟ اسئلة كثيرة، أرى للأسف أن إجاباتها ربما تكون: لا أحد أو لربما، نادراً!.

وفي السياق ذاته نسمع أن أغلب هؤلاء يعرفون أخبار (امعات السوشال ميديا) الذين كتبت عنهم في عمود سابق، هؤلاء المسوخ، الذين شوهوا الذائقة الفكرية بمحتواهم الهابط، حتى قعر العالم المنخور هذا، فالكثير من محترفي مهنة الاعلام يعرفون تفاصيل حياتهم وماذا يحبون وأين يسافرون؟ ماذا صنعوا وكيف احتفلوا وبمن تزوجوا وهكذا!.

الشيء الأكيد الذي أؤمن به، أن العقل البشري قادر على صنع الإبداع الفكري والعلمي، لو أنه أتاح لنفسه فرصة البحث، وبلا شك أن من ابتكر المواقع الرصينة المليئة بالمعلومات، بذل جهداً ذهنياً مخلصاً، ولم تكن المسألة عنده مجرد شهرة أو توثيق لاسمه، على قدر ما كانت رغبة صادقة بتقديم عصارة أفكاره وما تفتقت عنها من فروع معرفية ساهمت بشكل واسع في اغناء الساحة البحثية بكل ما يحتاجه الباحث، كما ان الكثير من المهتمين، نجحوا في مزج ما يمتلكونه من خبرة وقدرة معرفية، مع ماقدمته لهم محركات البحث تلك من معلومات قيمة، ليقدموا بالتالي، وجبة فكرية دسمة لخدمة الموضوع الذي 

يشغلهم.

الفكرة إذن تكمن في أهمية ما يجب على الإنسان أن يصنعه، فالمعلومات متاحة إلى حد كبير وواسع، ولا يعوزها إلا الالتقاء باصحاب العقول النيرة الذين يسعون وراء معرفتها والحصول عليها، وهذا سيسهم بطريقة فاعلة في ترصين الحقول المعرفية، وبالتالي بناء ركائز متينة للمجتمع بشكل عام، فالحياة دون دراية لا تخلق عالماً قوياً قادرا على المنافسة

 والنجاح.