هادي عباس.. منعطفات النحت وتحوّلاته

ثقافة 2024/08/04
...

 صلاح عباس


ونحن نتصفح سفر الفنون التشكيليَّة في العراق، ونتطلع، للسمات المميزة في أفرع الرسم والنحت والخزف وبقية الفنون، نجد زخمًا كبيرًا من الأسماء المشاركة، ضمن هذا السفر الخالد من العطاءات النوعية، التي سجلت في تاريخ الفن أبهى المشاركات في المعارض الشخصية والجماعية، التي أقيمت على مدى عقود من الزمن. وهادي عباس، أحد الاسماء الفنية المهمة، إذ انهمك الفنان في تجريب مختلف مواد الرسم والنحت والخزف، طلية فترة زمنية تتدانى من نصف قرن، حافل بالعطاء والتنوع والإبداع المتجدد. 

بيد أن المنتج الفني المتحقق من بين يديه، يثير أسئلة الفن ومفاهيم الحداثة والرؤية الفكرية المصاحبة للأعمال الفنية التي أنجزها، ولنا هنا، أن نعطي الانطباع عن آلية اشتغاله والكيفيات التي اشتغل عليها، لا سيما في الفنون النحتية، وعلى الرغم، من اهتمام الفنان بفنون الرسم، تخطيطا وتلوينا، ومزاولة الخزف على نحو احترافي، غير أن تخصصه الدقيق في الفنون النحتية، ولذا سنحاول متابعة رحلته والتوقف عن أهم اللمحات الفنيَّة والتفكريَّة

لديه.

في الكثير من الدراسات الفنيَّة والنقديَّة والجماليَّة، يعد فن النحت من الفنون المكانيَّة، ويعتمد في جوهره على مؤهلات الوعي بالانتقاء النوعي للمواضيع الحسّاسة والمتفاعلة مع الحياة، خلال الحقبة التاريخيَّة التي انتجت بها القطع النحتية، وهذا الفن يحتمل توظيف كل المواد الخام الملموسة، كما يمكن الاستفادة من مختلف الحلول التقنية في عمليتي الحذف والاضافة، اي في عمليتي البناء والتقويض، وكما نعرف، بأن هناك منحوتات متجسدة بمواد خام لينة مثل الطين والشمع، وهذه المواد وضمن خصوصيَّة ليونتها، تسمح بالبناء خلال عملية التجسيد، اي اضافة جزء فوق جزء، حتى يكتمل التأليف التجسيدي، في حين هناك مواد خام صلبة، مثل الحجر والمرمر والجبس والخشب والحديد، وتلزم هذه المواد الخام، عمليات حذف وتقويض، لكي يتم استظهار الكائن الشكلي والموضوعي الكامن فيها، وتحريره على نحو مسوغ بعناصر الفن، وعندما قال مايكل انجلو "أرى في داخل القطع الحجرية اشكال المواضيع الكامنة، وما عليَّ سوى تقشير الحجر لكي يظهر لحيز الوجود"، وعندما نأمل الولوج في عالم عباس، فإننا سنجد أنفسنا بمواجهة فنان متعدد المواهب، وغزير الإنتاج ومتنوع في الانشغالات الفنية، ولا بد من الاجابة عن الأسئلة المتعلقة بالاسلوب الفني، وهل أن الفنان تمكَّن من طبع بصمته الشخصية المتفردة؟ 

أعتقد، بأنه يتوق للتحرر من عقدة السياقات الثابتة، في عمليات الطرح الفني المستمد، من خلال انتخاب وحدات صورية أو شكلية ومعالجاتها فنيا، من ضمن منهج بنائي وتقني معين، كما يفعل الكثير من الفنانين، بل إنه حطم هذه القاعدة، آخذا بنظر الاعتبار قيم الحرية المطلقة التي تتيح له حق الانتقال والتخطي والعمل على مختلف المعالجات الادائية وتوظيف مختلف المواد الخام، التي يتعاطف معها 

وذلك تبعا لأهمية المواضيع الانتقائية التي يود العمل عليها. 

والخلاصة أنه ينتج نحتا ناجحا بكل المعايير الفنية، شكلا ومضمونا، والمثير للاهتمام، بأن مفهوم الأسلوب لدى الفنان يعني تكوينه الشخصي، بما يتضمن من خبرات فنية في مجالات تطويع المواد الخام، وسبل انجازها الفني والتقني، وفي مجالات الرؤية والموقف من الاحداث والمستجدات في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. وعلى هذا الأساس فان مفهوم الاسلوب متداخل مع التنوع المتوافق مع مزاجه وأفكاره ورؤاه للعالم والحياة الديناميكية والمتحولة باستمرار.

لقد زاول عباس، مختلف أفرع فن النحت، وبمجرد، متابعة سريعة، لمجمل انشغالاته، سنجد بأنه زاول النحت الواقعي المتقن، محققا اعلى قدر من المشابهة وضبط النسب وترديد الاشكال، كما هي في الواقع بطريقة مطابقة. وهذا يؤشر إلى تمسك الفنان بالمنهج الاكاديمي، الذي يولي أهمية قصوى للأجزاء والتفاصيل المتداخلة في بنية النحت، كما نجده في الجانب الاخر مهتما بالمواضيع المجترحة من الموروث العراقي والبغدادي، حيث تجسيد المواضيع الشعبية وبعض العادات والتقاليد الاجتماعية والطقوس الدينية. ولكن هذا السياق من العمل يفضي الى المناهج التعبيرية والرمزية، حيث استند الفنان على قواعد الضبط في التصميم الشكلي، بعد اجراءات الاختزال والترشيق للمفردات الادمية والوحدات الصورية، التي تحيط بالملمح الذي ظفر به. وتجيء هذه السلسلة الفنية ضمن سياقات العمل، التي دعا اليها جواد سليم في بيانات جماعة بغداد للفن الحديث، والتي تدعو لتأسيس مدرسة فنية عراقية، تستمد قوتها وجوهرها من الجذور البغدادية، ولذا فالدعوة مستمرة لتأكيد أصالة الفن المكتسب للهوية الوطنية، والى جانب ذلك، نجد أن هادي عباس انتبه لأهمية ابراز الذات عبر انشاءات موضوعية مثيرة للفزع، ومعبرة عن مخاوف الحقب التاريخية، التي فرضها الواقع السياسي الجديد في العراق، مثل "إنسان يركض متعثرا بخطواته، وهو يحيل رأسه بين يديه، أو مجموعة من البشر تتلوى سيقانهم في حركات عنيفة، وكأنهم ذاهبون الى الموت الحتمي". 

أعتقد أن الفنان يتحسس وطأة الحياة اليومية المفجعة، بل يعيش ضمن آلامها ومآسيها، وهذه السلسلة من الأعمال، تؤكد ارتباطه بالأحداث اليومية المثيرة للريبة والاستفزاز.

وعندما أقام عباس معرضه الشخصي الخاص بالنحت الفخاري على قاعة حوار للفنون كما اتذكر في نهاية التسعينيات، كان أنموذجا رائعا للنحت المشغول بمادة الطين المفخور، من حيث الاداء الفني وصوغ الاشكال وانتخاب المضامين، وأتذكر أن الفنان اسماعيل فتاح اقتنى من هذا المعرض عملين، وعلق قائلا إن "الفنان هادي عباس من النحاتين الجيدين في العراق".

ويعد هذا الرأي تقييما فنيا ونقديا محكما، لأن الفنان اسماعيل فتاح عرف بصراحته ووضوحه بلا لف ولا دوران، ولا يُغامر بإطلاق آراء مجافية لحقائق الفن. ومن هذا المنطلق فإننا نحرص على عرض الأهمية الاستثنائية للفنان هادي عباس، الذي يعد من فناني العقد السابع، وواكب اغلب الفنانين الرواد والمؤسسين، وتعرف على مختلف الأساليب الفنية، وعاش في غمار المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها البلاد، بكل التحولات والحروب والأزمات والحصار، ولكن يبقى الحلم بتحقيق الجدوى، من خلال العمل على كل أفرع الفنون 

التشكيلية ابتغاء لتفريغ الطاقة الكامنة في روحه وجسده.