الاغتراب و القلق الوجودي

ثقافة 2024/08/04
...


  حسن الكعبي

مفهوم (الظمأ الأنطولوجي) من المفاهيم التي اجترحها المفكر العراقي -عبد الجبار الرفاعي - للتعبير عن ظمأ الانسان الى ما يثري وجوده، وهو بتعبيره "الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود، لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه

 فظمأ الانسان في بعده الانطولوجي متجذر فيه ومهمين على وجوده بالكامل، وهو المفهوم الوحيد الذي بإمكانه أن يجيب عن تساؤلاتنا حول سيادة ظاهرة الإرهاب وتفشيها بين الشباب في الغرب وغيره، ممَّن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، وفي هذا الإطار يتساءل "فما الذي يدفعهم  للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشيّة عبثيّة، تتلذَّذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحاريّة؟". ويجيب "إنَّ ذلك يعود إلى ما يعانونه من ظمأ أنطولوجي للمقدَّس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذَّات الحسِّية".

والظمأ بما هو تعبير عن الحاجة والنقصان والفقر، فهو ينطلق بالأساس من مفهوم الاستلاب والاغتراب بأنواعه والتي تنبع بالأساس من الاغتراب الميتافيزيقي - الديني، لكن بمنظور يغاير تصورات فيورباخ الذي يرى "أنه لا يوجد تباين واختلاف بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة أي أنّ الإنسان نزع عن نفسه صفاته وتنازل عنها لله - أي أن الله أنموذج ذهني من تصورات الانسان ذاته - ونتج عن ذلك اغترابه وضعفه وعجزه واستلابه وقد ربط فيورباخ الاغتراب بالدين واعتبره المصدر الأساس للاغتراب، حيث أن فكرة الله تسلب الإنسان ذاته وذلك لاعتقاده بوجود قوة مفارقة له متميزة ومختلفة، وبذلك فالاغتراب الديني هو مصدر كل اغتراب، لكن الاغتراب الميتافزيقي يعني عند الرفاعي "بما هو حالة يشعر فيها الإنسان بحاجته إلى ما يثري وجوده وبحث الإنسان عن حاله كماله عبر ما يثري وجوده بوصفه كائناً مفتقراً إلى الآخر هو الذي يتسبب بغربته، ومصدر شعور الانسان بالاغتراب هو مصدر ميتافزيقي ينشأ من حاله شعور الانسان بافتقاره الى الله - كواجب للوجود - تحتاجه الممكنات الوجوديّة، وسواء كان الاغتراب من نوع اغتراب الوعي أو الاغتراب النفسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي إلا أنّه يرتبط بالاغتراب الميتافيزيقي، وهو نقطة الالتقاء بينها، فالشعور بالاغتراب ناشئ من حالة الشعور بالافتقار إلى الآخر في الحالة الاجتماعية والنفسية، أو الى المادة في الحالة الاقتصادية او الاستقرار الأمني والحرية والعدالة في الحالة السياسية.. الخ.

إلا أن نقطة الاختلاف تكمن في أن الخلاص من الاغتراب في هذه الأنواع لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي، والى هذا يشير الرفاعي "على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي، لكن الخلاص من الاغتراب في هذه الأنواع لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي".

ويرجع الرفاعي أسباب عدم القدرة من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي "لأن الاغتراب الميتافزيقي اغتراب لكينونة الكائن البشري عن وجودها، وهذه الحالة من الاغتراب تنتج القلق الوجودي إذ بعد أن يفتقد صلته بإلهه يفتقد ذاته".

بمعنى أن الكائن البشري لا يمكنه الخلاص من اساس اغترابه، الا اذا استطاع ان يجد تلك الصلة بينه وبين إلهه فيصل الى حالة من التسامي والتصالح مع الذات وحبها. وطبعاً قد تختلف رؤية الانسان للإله فقد يكون الإله عند البعض هو المال او المادة المشبعة لأنواع الغرائز أو هو شخص ما أو عقيدة ما أو رمز ما، لكن ما يقصده الرفاعي بالإله هنا هو الله تعالى كحقيقة مطلقة يصعب إدراكها؛ لذلك فإن البحث عنها يظل دائماً هو الهدف من خلق الانسان للارتقاء بذاته وتساميها في رحلة البحث هذه، ولذلك فهو يقول بخلاص الانسان من أنواع الاغتراب من دون التمكن من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي إلا في حالة الاقتراب من الحقيقة المطلقة حيث يتحول المنظور"الى الإله من منظور عدائي الى منظور قائم على الحب" بمعنى أن الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي يكمن في الدين بتجلياته الجماليّة.

فالإنسان كما يشير الرفاعي "كائنٌ متعطِّشٌ على الدوام إلى ما يرتوي به، ومن خلال البعد الأنطولوجي في تصوراته: يمكننا العبور إلى جوهر الدين، وبه يرتوي الظمأ للمقدَّس، وبه نتذوَّق الأبعاد الجماليّة، وندرك ما يفيضه الدينُ على مشاعر المتديِّن في عالمنا، من جمال"، ومحبة وتسامح نابعة من منظومة تيولوجية مترشّحة عن الدين كحقيقة انطولوجية لها تجلياتها الجماليّة التي تروي ظمأ الانسان الى الكمال، وهي بذلك تختلف عن حقيقة الدين في طابعها الايديولوجي الذي يسيس وجودنا دون أن يثريه.