هل توجد ثقافة أم أزمة ثقافة؟

آراء 2024/08/04
...

 د.سلامة الصالحي

أزمة الثقافة العراقية لدى مثقفي الداخل في عدم تبني مدرسة أو منهجية ثقافية نقدية خلاقة تتعامل مع معطيات العصر والحضارة بمفاهيم جديدة، مستوعبة لروح العصر، في حين نجد أن مثقفي الخارج لهم تجمعاتهم وأفكارهم وندواتهم ومشاريعهم الفردية الخاصة، التي بقيت مجرد أنشطة ثقافية تخص الجماعات المهاجرة، وإن كان لبعضها مفهومٌ آخر

كلمة ثقافة تعني أشياء كثيرة فهي تبدأ من الفكر، الذي يحمله الإنسان إلى سلوكياته اليومية وهي كلمة عامة وجزيلة المعنى، تبدأ بالموروث التاريخي ولا تنتهي بمنتج الحاضر والمؤقت والخاضع للتغيير وعدم الثبات وهي نهر دائم الجريان، يأخذ معه الاحداث الفردية والجماعية ليصب في بحر عام، وهو الوجود الإنساني برمته وكيفية التأثير والتأثر به. وفي زمننا الراهن وفي بلادنا التي استيقظت على زلزال التغيير من نظام استبدادي وعنيف إلى طرح خارجي للحرية والديمقراطية، ووضع الثقافة على طاولة الامتحان في التعاطي مع التغيير والحدث السعيد وهو رفرفة الحرية بأجنحتها الطويلة على سماء الفكر والوجدان فصار بأمكاننا أن نكتب وأن نطرح الآراء تحت جناح الحرية الآمن يحرسنا دستور يعزز هذه الحرية بعد أن تخفينا خلف جدران سميكة من الخوف والتردد، أدى إلى هجرة العقول المفكرة والمبدعة والمنتجة إلى بلدان أكثر حرية ومساحة من التقبل في طرح المنتج الفكري والثقافي، فصار لدينا مثقفو الخارج ومثقفو الداخل وما نتج عن التغيير من هجرة متعاقبة لعقول لم تستوعبها مرحلة التغيير، بحجة انتمائها للنظام السابق وتبنيها لمشروعه الاستبدادي، وعدم اشاعة فكرة التسامح والقبول، بل بالعكس صار الاستهداف الشخصي والطعن والحرب على أوارها في استبعاد وإقصاء كل من كان له صلة بالنظام السابق، وصار مفهوم التسامح والمصالحة فضفاضا ولا وجهة حقيقية له، وانشغل في تجنب الدماء والصراعات الدموية، التي نشبت على أسس طائفية مقيتة، متناسين أن الصراع ثقافي وفكري محض بالدرجة الأولى، أدى إلى سيول الدماء التي من الممكن أن تتفجر في أي لحظة وتعود، من خلال تحريكها بمنظومة فكرية خفية، قد تطفو على السطح في أي لحظة إذا لم تكن المصدات الثقافية جاهزة لتلافيها والحد منها. أزمة الثقافة العراقية لدى مثقفي الداخل في عدم تبني مدرسة أو منهجية ثقافية نقدية خلاقة تتعامل مع معطيات العصر والحضارة بمفاهيم جديدة، مستوعبة لروح العصر، في حين نجد أن مثقفي الخارج لهم تجمعاتهم وأفكارهم وندواتهم ومشاريعهم الفردية الخاصة، التي بقيت مجرد أنشطة ثقافية تخص الجماعات المهاجرة، وإن كان لبعضها مفهومٌ آخر، وهو نشر وايصال الثقافة العراقية ومنها على وجه الخصوص التشكيل الفني، وما تجهد به الندرة النفيسة من فناني العراق، الذين هاجروا تحت وطأة الظروف والمحن، التي أدت إلى قرار ابتعادهم عن العراق، للحفاظ على حياتهم وحريتهم وعدم قدرتهم على العودة، بعد أن أسسوا لحياتهم الخاصة وجود وكيان لا يستطيعون التخلي عنه والعودة إلى البلاد، وبقي خيط متين من التواصل بينهم وبين بلادهم الأم، التي من خلالها ينجزون ما هو مميز ومتفرد من معارض فنية، تبنتها أرقى المتاحف العالمية، وفي النتيجة هذا المنجز يصب بمصلحة تاريخ الثقافة العراقية وإن تبنته جهة أجنبية، فلا يمكن نكران جذور المعرفة والمنبت الاول المؤسس والباذر لبذرة الابداع الاولى. اما في الداخل فقد بقيت العلاقات والمحسوبيات والشللية تتحكم في الصورة الباهتة للثقافة العراقية في الداخل، وبقي المثقف أسير العشائريات والوجهة الطائفية، يستثنى منها قلة قليلة، تحاول جاهدة إعادة الروح للثقافة العراقية في الداخل، والتي هاجر أغلب رموزها ومبدعيها، مبتعدين عن أجواء الخلل الكبير، الذي طالها ونال منها وبقيت مؤسسات رصينة كاتحاد الأدباء، تحاول جاهدة إيقاف الثقافة العراقية على أقدام راسخة كأنها اليتيم الذي تركه آباؤه إلى وجهة، لا يعودون منها وتبقى هناك محاولات فردية تنهض ثم تنغمر في الفوضى، التي يربكها السياسي، الذي يحاول بكل الطرق طمس ثقافة البلاد وفرض ثقافته البدائية والعائدة بسلة التراث، والتشدد وفرض فكره المتطرف دينيا وعقائديا على مسار الحياة العامة أو الدس غير المباشر في الإساءة إلى مجرى الثقافة الحقيقية والمدنية، التي غابت عن التعامل اليومي والعام في البلاد، والتركيز على ثقافة شعبوية دينية ذات مظاهر ترفضها روح العصر والقيم الحضارية. ازمة الثقافة فردية وجماعية. ولهاث غير مسبوق وتنافس على حيازة المال وتحديث الحياة بمظاهرها الحديثة دون حداثة حقيقية بقيم انسانية وفكرية تحمي الإنسان ومستقبل البلاد، أكاد أجزم أن نهر الثقافة المتناقص يهدد وجودنا الحقيقي وتطورنا واللحاق بمراكب الحضارة، التي تقودها الشعوب، فالمنتج الثقافي مهمل كما اهملت كل مظاهر الحياة من زراعة وصناعة وبناء حقيقي للبلاد، التي تحكمها الفوضى والمحاصصة ويتحكم بها الفساد المالي والاداري على مستوى مؤسسات وافراد، بتفشي الرشى والتخادم المصلحي، اما المؤسسات الثقافية تكاد أن تكون بلا أي منهحية ورسوخ وموقف وقرار. الأزمة كبيرة ولا يمكن أن تتجسد بمقال أو دراسة عابرة، وينبغي الوقوف بجدية لمواجهة هذا الفقر، الذي طال ثقافتنا في الداخل، وجعل الخطابات الشعبوية تهيمن على فكر وسلوك الناس، تحت مسمى حرية قاتلة احيانا وغير منصفة في السماح لمظاهر من التخلف والعودة إلى الوراء، أو استيلاد مفاهيم جديدة يتم فرضها بالقوة. ولا يخفى علينا أن بعضا من يطلق عليهم صفة المثقف صار موظفا يبحث عن المنفعة والامتيازات، عبر تنقله من هذه الجهة السياسية إلى تلك، واضعا بضاعته الفكرية في خدمة من يدفع أكثر أو يعطي أكثر، غاب عن حياتنا المثقف والمنتج الزاهد والمعطاء، وصار لاهثا خلف مصلحته الخاصة وعلاقاته، التي تأتي له بالمنفعة، ناسيا أن الثقافة أمانة وذمة لا يمكن المتاجرة

 بها.