فحوصُ دمٍ للكشف عن مرض السرطان

بانوراما 2024/08/06
...

  مارلين سيمونز 

 ترجمة: أنيس الصفار 

عندما كان زوج “سندي بيريز”، وهي امرأة من “ساوثويست رانشز” بولاية فلوريدا، يتلقى العلاج من مرض السرطان علمت سندي بوجود فحص للدم من شأنه المساعدة على الكشف المبكر عن السرطان. تقول المرأة البالغة من العمر 50 عاماً إنها لم تكن تشكو أي اعتلال في صحتها ولكن زوجها حثها على إجراء ذلك الفحص على اي حال.شد ما كانت دهشة سندي حينما جاءت نتيجة فحص الدم، المسمى غالّيري، موجبة. ففي وقت لاحق كشفت عمليات المسح بالأجهزة المتخصصة وجود ورم صغير عندها في منطقة أعلى الفخذ شخّص بأنه أحد الأنواع النادرة من سرطان الغدد اللمفاوية شديد الشراسة. تلقت المرأة العلاج وهي الآن بعد مرور عامين على ذلك تعيش حالة من الاستقرار والتماثل. تقول سندي: “لقد كان ذلك الفحص معجزة بالنسبة لي.. معجزة عظيمة بحق.”

يعتقد عديد من الخبراء أن مثل هذه الفحوص، التي تعتمد مبدأ تحليل مواد موجودة في مجرى الدم قد تشي بوجود مرض السرطان، تمثل فصلاً جديداً باهراً ضمن معركة الكشف عن السرطان، وهي يمكن أن تكون مفيدة بشكل خاص للكشف عن أنواع السرطان “الصامتة”، مثل سرطان البنكرياس وسرطان المبيض، التي لا تكون لها أعراض ملحوظة إلى أن يتقدم المرض ويصبح علاجه أكثر استعصاء وصعوبة.

يقول العالم “إيريك كلاين” من شركة “غريل” للرعاية الصحية، الذي عمل على تطوير فحص غالّيري للكشف عن عدة انواع من السرطان: “هذا الفحص يفتح امامنا عالماً جديداً تماماً، وهو ما كان ينقصنا للتمكن من مواجهة مرض السرطان.”


الكشف المبكر

مهمة فحوص الدم الجديدة هي قياس “الإشارات” الدالة على وجود السرطان والمتكونة من مواد بايولوجية يفرزها الورم السرطاني نفسه، مثل فتات الحامض النووي للورم. فهي فحوص مختصة باستقصاء آثار السرطان، ويوجد منها حالياً نحو 20 فحصاً ضمن مراحل مختلفة من التطوير.  بعض الفحوص يمكنها تحديد العضو او النسيج المصاب.

يقول الخبراء إن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تحقق خلال السنوات الأخيرة هو الذي جعل هذه الفحوص الجديدة ممكنة، ومنها الاكتشافات في مجال بايولوجيا الأورام ووسائل التعلم الآلي والقدرة على تشخيص الحامض النووي المنتقل مع الدم عبر الدورة الدموية وغيره من المواد.  

تركز بعض الفحوص على نوع واحد من أنواع السرطان، مثل فحص “غاردانت هيلث شيلد” الذي يبحث عن سرطان القولون والمستقيم، فيما تدقق فحوص اخرى بحثاً عن انواع متعددة من السرطان، بضمنها فحص “غريل غالّيري” و”كانسرغارد” الذي تطرحه شركة “إكزاكت ساينسز” بعد تطوير سلفه “كانسرسيك” على يد باحثين من مركز “جون هوبكنز- سدني كميل” للسرطان.

فحص سرطان الرئة الذي طرحته شركة دلفي، والمسمى “فرست لوك”، يستطيع التعرف على أنماط شظايا الحامض النووي (دي أن أي) في الدم التي تطرحها الخلايا الميتة وتكون فريدة ومميزة ومحددة بسرطان الرئة حصراً، كما يستعين بوسائل التعلم الالي للتمييز بين من يحتمل ان يكونوا مصابين بسرطان الرئة والاخرين غير المصابين، بحسب “بيتر باخ” رئيس الشركة. 

يقول باخ: “هناك أنواع معينة من السرطان نعلم يقيناً أن اكتشافها المبكر يمكن أن ينجي ارواحاً كثيرة، وسرطان الرئة هو اكبر مشكلة نواجهها اليوم.”

الفحوص المذكورة لا تعمل على تشخيص السرطان، لكن النتيجة الموجبة قد تدفعنا لإجراء فحوص اضافية بالتصوير او اخذ خزعات للزرع. يقول الخبراء إن الفحوص ليست مهيأة بعد للحلول محل فحوص الكشف القياسية مثل ناظور القولون والتصوير الشعاعي للثدي او مسحة عنق الرحم، لكنها تأتي مكملة لها. 

ففي دراسة أجريت على غالّيري مثلاً وجد أن تحديد الفحص لموضع السرطان كانت دقيقة بنسبة 88 بالمئة. وافادت دراسة عن فحص دلفي لسرطان الرئة ان الدقة تجاوزت 90 بالمئة، كما أظهرت دراسة أخرى لفحص “غاردانت هيلث شيلد” مستوى دقة نسبته 83 بالمئة عند تمييز المرضى المصابين بسرطان القولون.

رغم أن هذه النتائج تبعث على التفاؤل يحذر الخبراء من جوانب قصور لا تزال تعتريها. يقول هؤلاء الخبراء إنه ما من دليل يقوم حتى الآن على أن اكتشاف السرطان بطرق فحص الدم يمكن أن يترجم إلى إطالة أمد الحياة أو خفض الوفيات، أو حتى التوصل إلى علاج.

تقول “لوري ميناسيان”، نائبة مدير قسم الوقاية من السرطان في المعهد الوطني للسرطان: “يحب الناس أن يتصوروا وجود فحص واحد يكشف عن مرض السرطان بجميع انواعه المختلفة، فإن جاءت نتيجته سالبة انصرفوا إلى شؤون حياتهم مطمئنين، لكن الأمر ليس بهذه السهولة.”


أهداف مراوغة 

يلفت الخبراء النظر إلى أنّ فحوص الكشف عن عدة أنواع من السرطان لا تتمكن من التقاط كل تلك الأنواع خلال مراحلها الأولية، وسبب ذلك جزئياً هو أن بعض الأنواع أسرع انتشاراً.

يقول “وليام غريدي” مدير برنامج الوقاية من سرطان الجهاز الهظمي من مركز فريد هاتشنسون للسرطان بسياتل، إن الأمر يتوقف على السرطان نفسه.. فسرطان الدماغ مثلاً يكون هدفاً متملصاً يصعب اكتشافه مبكراً، لذلك لا تكون هذه الفحوص فعالة مع حالة سرطان الدماغ لأنه ينتشر بسرعة منذ بدايته رغم حجمه الصغير، ما يجعل الشفاء منه صعباً حتى خلال مرحلته المبكرة.”

يبقى هناك الكثير من عدم الوضوح بشأن كيفية وتوقيت افراز أنواع السرطان المختلفة لتلك المواد التي تفضح وجودها وتستطيع فحوص الدم الجديدة استشعارها، وما اذا كانت هذه المواد الدالّة تظهر في مرحلة مبكرة او بتكرار كافٍ لإحداث فرق يخدم إطالة عمر المصاب.

رغم ذلك يميل بعض المرضى الذين خضعوا لفحص غالّيري إلى الاقتناع بأنه قد انقذ حياتهم. ففي العام 2022، وبعد أن اعطى فحص غالّيري نتيجة موجبة لحالة “فاليري كارو”، اظهرت صور الرنين المغناطيسي وجود حصى في المرارة وجب استخراجها. لم تكن تظهر على كارو، وهي سمسارة عقارات بولاية أريزونا عمرها 56 عاماً، أية أعراض لمرض السرطان، لكن عثر بين حصى المرارة المستخرجة على ورم خبيث صغير الحجم. هذه المرأة قد تخلصت من السرطان الآن، وتقول: “لا أحب أن أفكر فيما كان سيحدث لي لو أن هذا الورم اكتشف متأخرا.”

لم تصدر إدارة الغذاء والدواء الأميركية موافقتها النهائية بعد على أي من الفحوص المذكورة، غير إنها متاحة بصفة فحوص “مختبرية” وفق ضوابط فدرالية تسمح باستخدامها ضمن ترتيبات معينة. 

هذه الفحوص ليست مشمولة بتغطية  برنامج “مديكير” للرعاية الصحية او اي شكل آخر من أشكال التأمين، لكن بعض الجهات الطبية وأرباب العمل الان يوفرونها لمنتسبيهم والعاملين لديهم. فأي موظف يحمل تقريراً طبياً يؤيد حالته يستطيع تلقي فحص غالّيري الذي تبلغ كلفته 949 دولاراً، وتعرض جامعة برنستون الفحص نفسه لموظفيها المستحقين مجاناً ضمن برنامج تجريبي. اما فحص غاردانت لسرطان القولون، الذي يكلّف 895 دولار، فهو متاح ايضاً، ولو ان هذا لا يعني أن جميع الاطباء قادرون على الوصول اليه بعد، بحسب الشركة.

كما تخطط شركة “إكزاكت ساينسز” لجعل فحصها متاحاً ضمن حدود معينة، كما يقول “توم بير” مدير الشركة والمشرف على الكشف المبكر عن عدة أنواع من مرض السرطان.

في العام 2018 تلقت “سوزان جونز”، وهي متقاعدة من ولاية بنسلفانيا عمرها 75 عاماً كانت تعمل مستشارة ضمن برنامج “مديكير”، فحصاً كجزء من دراسة تتناول فحص “كانسرسيك” للسرطان. وبعد ظهور نتيجة موجبة كشفت عمليات المسح اللاحقة وجود ورم “ساركوما العضلة الملساء” داخل رحمها (وهو نوع نادر من السرطان يبدأ ظهوره بين انسجة العضلة الملساء ضمن أجزاء عديدة من الجسم: كالجهاز الهضمي والجهاز البولي والأوعية الدموية والرحم) وبعد إجراء عملية استئصال الرحم انبأها الأطباء بأن الورم أزيل تماماً.

تعلق سوزان: “لا أعلم مدى شراسة هذا الورم، ولكن عندي حفيد واحد قيض لي أن أراه يتخرج من المدرسة الثانوية، وبوسعي الان أن اتطلع لرؤيته يتخرج من الكلية ورؤية ابنائه من بعده.”


ليست بديلاً  

تشير الدراسات بأن معدلات ظهور نتائج موجبة او سالبة كاذبة كانت منخفضة لدى فحوص الدم الجديدة للكشف عن السرطان لكن يبقى هناك قلق، مثلما هو حال أساليب الكشف التقليدية، من أن تتسبب النتائج الكاذبة الموجبة بإثارة القلق والاندفاع لإجراء فحوص اخرى اكثر تعمقاً وأعلى كلفة، لكن النتائج الكاذبة السالبة قد تسفر عن شعور خادع بالاطمئنان يجعل المرضى يمتنعون عن الفحوص التقليدية المجربة، بحسب الخبراء.

على سبيل المثال أن فحص الدم قد لا يكون محل ثقة بنفس درجة ناظور القولون عند اقتفاء آثار الزوائد اللحمية السابقة لتطور السرطان، او السرطانات، منذ المراحل المبكرة، وجزء من السبب هنا مردّه أن السرطانات المبكرة قد تطرح كميات أقل من الحامض النووي “دي أن أي”. يقول غريدي، الباحث من “مركز فريد هاتشنسون للسرطان”، ان فحص غاردانت لم يتمكن من تشخيص سوى 13 بالمئة من المصابين بزوائد لحمية خلال مرحلة متقدمة و71 بالمئة من حالات السرطان ضمن المرحلة الأولى و100 بالمئة من الحالات في المرحلتين الثانية والثالثة.

لكن هذه الفحوص يمكن أن تكون مناسبة للمرضى الذين يكرهون الخضوع لطرق الفحص التقليدية مثل “دينس بارنز”، 55 عاماً، المشاور القانوني للمستحضرات الصيدلانية من ولاية كارولينا الشمالية وكان ينفر من تعريض نفسه لاجراءات تنظيف الامعاء التحضيرية لإجراء عملية تنظير القولون.

بدلاً من ذلك اجرى بارنز فحص الدم غاردانت المخصص لسرطان القولون قبل سنتين وشدّ ما كان سروره وارتياحه عندما جاءت النتيجة سالبة. عما قريب سوف يجري فحصاً ثانياً، وعن ذلك يقول: “كنت اعلم أني معرض للخطر اكثر من غيري لكوني من أصل افريقي، لكن فكرة فحص القولون بالناظور لم تكن مستساغة لدي.” لذا وثب لاغتنام الفرصة بمجرد أن ذكر له طبيبه فحص الدم.  

وأعلن “المعهد القومي للسرطان” مؤخراً عن تأسيس شبكة ابحاث لفحوص السرطان، للتجارب السريرية مؤلفة من تسعة اقطاب ينسق بينها مركز فريد هاتشنسون للسرطان. تهدف لوضع مخطط تصميمي للتوصل إلى توفير الدعم لاجراء تجارب سريرية لتقييم فوائد واضرار فحوص الدم الجديدة، وتحديد ما إذا كان استخدامها سيؤدي إلى خفض أعداد الوفيات بمرض السرطان، بحسب ميناسيان.

كما ستشرع الشبكة المذكورة بدراسة استطلاعية يساهم فيها 24 ألف مشارك تمهيداً لتجربة مستقبلية محتملة أوسع نطاقاً تجرى تحت السيطرة على عينة عشوائية. تقول ميناسيان: “إنها اختبارات واعدة، والتحدي امامنا الان هو التوصل إلى فهم افضل للتقنية وكيفية تطويعها على نحو يجعلنا واثقين من أنها ستسفر عن إنقاذ الحياة.”

يقول “جيويل سامادر”، مدير قسم معالجة الأورام بالوسائل الدقيقة في السرطان بعيادة “مايو كلينك” والمستشار السابق لشركة “كاريس لايف”، التي تعمل هي الأخرى على تصميم فحص للدم يتحرى عدداً من أنواع السرطان، إن الهدف النهائي لمثل هذه التجارب يجب أن يتمثل بإجابة للسؤال: هل سيعيش الأشخاص الذين خضعوا لفحص الدم عمراً أطول؟ لأن جميع الفحوص والاختبارات لن تعني شيئاً ما لم تؤد إلى تحسين معدلات الحياة.”

من المحتمل أن تكون تلك الفحوص على مبعدة سنوات من إتاحتها للاستخدام على نطاق واسع بسبب جملة من الأسئلة التي لا تزال بلا جواب، مثل: هل ينبغي أخذ العمر اساساً لتلك الفحوص؟ ام جعل عوامل الخطورة هي الأساس؟ أم هو التاريخ العائلي؟ من غير الواضح ايضاً كم هو عدد مرات فحص الدم التي يترتب على الشخص أخذها وعلى أي أساس؟

يقول سامادر: “هل سنرى هذه الفحوص وقد أصبحت جزءاً من الفحص البدني الروتيني؟ نحن لم نبلغ هذه النقطة بعد، فهل سنبلغها؟ هذا هو أملنا.”قبل ثلاث سنوات وافق جوناثان، وعمره 69 عاماً، على اقتراح طبيبه فوراً بإجراء “فحص غريل” للدم. كانت نتائج فحوصه السنوية الروتينية (المختبرية والبدنية) تأتي طبيعية مع كل مرة، لذا تفاجأ عندما ظهرت النتائج موجبة هذه المرة.  

بعد مزيد من فحوص التثبت والتأكيد اكتشف الاطباء وجود إصابة بالسرطان داخل احدى العقد اللمفاوية تحت أبطه الأيمن، وهو شكل من اشكال سرطان “هودجكن” يصيب الغدد اللمفاوية. بعد تلقي العلاج بالاشعاع والمواد الكيميائية تخلص جوناثان من السرطان، وهو لا يكف عن التساؤل: أين كان سينتهي به المآل يا ترى لولا اجراءه فحص الدم؟ ويجيب على تساؤله فيقول: “من يدري؟ ولكن المؤكد أنه ما كان ليزول من تلقاء نفسه.”   

عن صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية