شوكولاتة الحقيقة

ثقافة 2024/08/07
...

أحمد عبد الحسين

من يراقبْ يعرفْ أن هناك معركة بين المعرفة والتسلية. والتسلية تنتصر.
كلّ شيء تقريباً، من القصيدة حتى نظرية الكوانتم مروراً بالدين والفلسفة، لم يعدْ يأتي إلينا إلا في عُلب هدايا مغلفة بورق اللهو. معلومات محشورة في لعبةٍ مصممة لتزجية الوقت، لجعل الزمن يمضي بأقلّ قدرٍ من التفكير، وأكثر ما يمكن من التسالي.
وإلا هل يستطيع أحد أن يمسك نفسه من الضحك اليوم إذا سمع أحداً يقول إنه “باحث عن الحقيقة”؟ إنْ لم تضحك علناً فستسخر من الجملة في سريرتك. لأنّك تعرف ومعك مليارات البشر أنّ فصيلة الباحثين عن الحقيقة انقرضتْ، لا لأنّ حضرتك حللتَ ألغاز الوجود بل لأن الحقيقة سقطت من عليائها وتشظت كِسراً كما يسقط كوب زجاجيّ من الطاولة، صارت متكثرة وكلٌّ منّا اكتفى بحصته من شظايا كوب الحقيقة التي باتتْ تأتينا مسليّة حلوة في فيديو، في ريلز، في منشور فكاهيّ، أو في محاضرة “علمية” فيها من التهريج المسلّي أضعاف ما فيها من “علم”.
البحث عن الحقيقة مضجر ومملّ، مع أنه كان جوهر النشاط الذي يجعل الإنسان مفارقاً لبدائيته وحيوانيته وتوحشه. هو لبّ الفلسفة، وصنو الدين، والأسّ الذي تتقوم به الكتابة بنثرها وشعرها. لكنه فجأة صار قديماً جداً. وفي الحقيقة فإنّ كلّ قيم ومقولات ما قبل الإنترنت صارتْ كأنها آتية من العصر الحجريّ. وليست المشكلة هنا. المعضلة هي أنّنا صرنا ننظر لكل ما هو قديم بوصفه تلفاً، غير صالح للاستعمال، وغير دالّ على رهاناتنا الحاضرة. ورهاناتنا الحاضرة أيها الأحبة لا تخرج أبداً عن قيد المسلّي الذي يقتل الوقت ويضحك على جثته.
دعوني أفكّر بالباحثين الكبار عن الحقيقة الذين كانوا يجوبون الآفاق ويسكنون مغاور الصحراء وأعالي الجبال من أجل لحظة صفاء مع أنفسهم والوجود. لأفكّر مثلاً بسلمان الفارسيّ الذي تنقّل بين الأديان كتنقله الممضّ في البلدان، فصار يهودياً ومسيحياً ثم مسلماً وكان يفتش عن حقيقة كبرى تجعل منه سلمان لا أحد سواه. ولأفكر بسمعان العاموديّ الذي كان يصوم أربعين يوماً وهو واقف على عامود “ومنه اشتق اسمه” لملاقاة البرق الذي يضيء له حقيقته. أفكر حتى بملا صدرا وهو يقضي 15 سنة من عمره على جبل “كهك”، وبالمناسبة فقد زرت هذا الجبل ومكثت فيه أياماً.
لمَ يبدو هؤلاء كما لو أنهم مخلوقات منقرضة؟ منذ متى كفّت الحقيقة عن أن تكون محرضة على بذل الوقت والجهد في سبيلها؟ ما الذي تغيّر في الإنسان حتى صار ما كان يظنه جوهراً لوجوده مثيراً للضحك؟
كان الإنسان وما زال يريد أن يحيا، شأنه شأن كلّ حيّ في هذا الكون، شأن الحيوان مثلاً، يدافع عن بقائه حياً بأي ثمن، لكنه ـ في ما مضى ـ لم يكن يريد أن يعيش كيفما اتفق، كان يريد لحياته أن تلامس الحقيقيّ ومنه تأخذ معناها. ويبدو أنّ كثرة الحقائق وتزاحمها على أبوابنا، على كمبيوتراتنا وهواتفنا النقالة جعلنا في غنى عن السياحة لطلبها، وفي غنى عن صرف وقت كثير من أجلها ما لم تكنْ مطلية بشوكولاته اللعب واللهو والتسالي التي تجعل الوقت، وقتنا العظيم يُقتلُ بسعادة غامرة.