أشجار الطريق

ثقافة 2024/08/07
...

ملبورن: عقيل منقوش

في مجموعته الشعريّة الجديدة بعنوان “أشجار الطريق” يعود الشاعر والمترجم العراقي المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، صادق زورة إلى الطريق التي غادرها قبل أكثر من ثلاثين عامًا، ليسرد لنا ما حدث بالضبط في تلك السنوات التي لا يزال الكثير من الأجيال الجديدة يجهل أحداثها المصيريّة، من حروب مأساويّة وفقر وهجر وحصار، وما جاء بعدها من خراب عظيم وقهر نفسي، ما زالا يكبران دون أن يغادرا.
أغلب قصائد المجموعة وجدانيّة تشتغل على استدعاء تلك الحياة الماضية الضاجة والمضطربة بأحداثها، التي عاشها الشاعر في موطنه الأصلي العراق، قبل أن يعيش في مخيم غير إنساني مع مجموعة من اللاجئين العراقيين وسط صحراء السعودية، عام 1991، بالإضافة إلى بعض القصائد التي استلهم مضامينها من حياته الجديدة في الغربة الأميركية، التي تختلف بعاطفتها الجمالية ودلالاتها الفلسفية وإيقاعها الذي تحرّكه آلة مختلفة للعيش والبقاء، بزمن بطيء وسريع في ذات الوقت.

1 - طريق البداية

في قصيدة : “تربية” ص ١٥

يكتب الشاعر الآتي:

لغتي خوفٌ
ومشي إلى الفرن
أكياس تراب في اليد
معاضد لهب في التراب
فضة في الروث اليابس
نارٌ ونور
مرقة بصل لا غير
صحن دبس
مقبرة للذباب
أيها الأصلع لا تقطع الطريق
اذهب إلى أمكَ
يا رامي التراب في الصحون
أف وتف
زرقة في الأظافر
مسكين أين نعلكَ؟
كسرُ زجاج في الطين
أخوض ذاهبًا إلى الفرن
فرن الصمون
يا صباح الخير.

ثمّة استدعاء لطفولة بائسة، مراحل نموها، الرجوع إلى نقطة البدء، المواجهة الأولى مع العالم، ذاكرة تسرد خليطًا من الصور المتداخلة، منها المرئي المتجسّد في التقاطات جاءت على شكل صور لمشاهدات كأنها شواهد على حقب وأحداث واقعيّة عاشها الشاعر، ومنها النفسي الذي جاء على شكل حوارات مقطوعة بصيغة السؤال المستفهم.

أما زمن القصيدة المرئي فيبدأ من مغادرة بيت العائلة، المشي في الأزقة الترابية، حتى الوصول إلى فرن الصمون، لكن زمنها غير المرئي، فيطول في ذاكرة الشاعر، مثل نهر يفيض ولا يتوقّف عن الجريان

أما في قصيدة: “المكان الأليف” ص49

البناية القديمة
إزاء الملعب الترابي
كانت مجمع عيادات طبية
طب عام، طب أسنان، وأنف وحنجرة
جوار محال بزازة، وحلويات، ومحل كماليات كبير
مقهى الشكوى والمتعة أيضا
دون لافتة إعلان، وحتى الكسالى
يجلسون على كراسي بلاستيك
أمام عاديات للبيع
أحزمة، قداحات، شموع أعراس كبيرة،
مهفات، جماجم ورقية
ومن الحديد حسب الرغبة
وإذا سألت،لأجابوك وحددوا لك الداء والدواء
لأنهم منا وإلينا
ولكنهم مذياع الحقيقة
يحزرون جوابكَ حتى عن الشاة والمنديل
المستطرق ستجذبه رائحة السمك
في أحواض شحيحة الماء
يفتح فيها السمك فمه ويطبقه
لساعات وساعات.

تزدحم هذه القصيدة بأسماء الأشياء الواقعية العاديّة وغير العاديّة، كالوظائف، والأسماء والتجمعات، عالم مُصغّر يتّسع بحركة الحياة الحقيقية، تأتي على شكل دفعة واحدة من العفوية والألفة، لتكون هي مكان استراحة ودهشة الشاعر، ربما عالمه الأول المزدحم بإشارات جعلته ينتبه لأدق التفاصيل، والتي سوف تعمّق لديه روح البحث الدائم في القصيدة لالتقاط صورة لم ينتبه لها غيره، كما في هذه الصورة التعبيرية الجميلة في نهاية القصيدة:

(في أحواض شحيحة الماء
يفتح فيها السمك فمه ويطبقه
لساعات وساعات)

2 - طريق العبور / والخلاص

قصيدة: “العبور” ص 85

خلتُ أننا سنندم
اختارتنا البساطة والوضوح
في عالم  تسرده وجوه غامضة
حقائبنا كانت خفيفة
وحينما كدّسنا في البيك آب
وتراشقت عيوننا بأسئلة مكتومة
لطّف من مزاجنا
الهواء
المُترب
خلف قافلة العربات
وكأننا كنا نترك مقبرة
صنادلٌ وصرر
وأطفال سعداء
كنا في العربة المسرعة
في خلاء عامر بنا
لم نكن ننوي العبور إلى هناك بلا دليل
لم نكن لنحمل أجسادنا
ونمضي بلا أمل.

إنَّ مشهديّة العبور هنا تتطابق بسلاسة صورها مع خفة: فعل/ العبور/ الحركي، ولطالما تنتاب العابر المخاوف والظنون والترقّب، في الانتقال من ضفة معلومة، إلى ضفة مجهولة، لكن الانتقال هنا في هذه القصيدة جاء وكأنه لحظة خلاص وانعتاق صوب حرية ما، يسعى لها العابرون بحقائبهم البسيطة وكأنها نزهة، خاصة حينما يكون المكان المتروك ما يشبه حجم المقبرة، وأن شعور الحرية يجعل الخلاء الواسع الفارغ مزدحما بطاقتهم التي يحركها الأمل، ويكتب الشاعر قصيدة أخرى تتحدث عن عبوره الشخصي عام 1991 من بلده العراق، تقول القصيدة التي جاءت بعنوان “في النهاية نحن بشر”:
في عام 1991 خرجت هاربا
وكنت في ذيل العاصفة
حتى وصلت إلى خيمة.

لو كنتَ محظوظا
لصرتَ معنا في الشبك.

سيمضي الصيف
ويبقى الأطفال.

ومشروع الكتابة
على أسيجة الدولة
فليسقط السلطان.

يا عبدو أفق
جزمتي ضاعت بين الحشود
وكنت أتذكّر مشيتك

في رواق البيت
تمر بأختيك تمر
بقدر فارغ في المطبخ.

وكم كنت أغش في الدين
أنقل آيات النار إلى المنديل
وكان البرد
والثلج
في الشمال الحبيب.

تتداخل صور هذه القصيدة بجملها القصيرة وعوالمها المختلفة، كأنها مكتوبة لذكرى شخص ما، يقفز اسمه في أحد المقاطع دون الإفصاح الكامل عن هويته، مما يجعله يقع في المتخيل لدى القارئ الذي ربما يهتم أو لا يهتم بهذه القصيدة المبنيّة على شكل مقاطع تعبيرية مكثّفة، كل واحد منها يحيل إلى حالة مختلفة، لكن خيطها الأساسي بيد المتكلم عابر الحدود بعد الأحداث الكبيرة التي وقعت بعد انتهاء حرب الخليج الأولى ضد العراق عام 1991.

3 - طريق المخيم/ المحتجز

قصيدة : “لا يردّون السلام”:

لا حجر في الصحراء
رمل
وحداء
خيم وعلب كرتون للطبخ
وسجائر من الجنود
وأنت وأنا بقع
مشوار
أفكر في المشي إلى أقصى الأرض
دون توقف
لو يرفعون الأسلاك
لمشيت ومشيت دون السلام على أحد
ودون أن أردّ السلام.

طريق الشاعر هنا في هذه القصيدة مفتوح لا ينتهي، يمتدّ لا يتوقّف عند نقطة دالة، حينما يكون المشي في صحراء، لا حجر فيها غير الرمل والحداء، كما يصوّر في بداية القصيدة، ليس سوى هذا الكائن المنطلق مثل سهم، لا يريد التوقّف أو الإقامة، لا السلام والمهادنة، إنه النزوح المستمر نحو المجهول، القطيعة المعلنة، خاصة حينما يكون المكان أشبه بمحتجز، يتكون من الغرف/ خيام، والأشباك المقسمة على خلايا، بينها حواجز إسمنتية، محاطة بأسلاك شائكة يحرسها جنودٌ ببنادق فوهاتها مصوّبة نحو اللاجئين العزّل، إنه اليأس كما يكتب الشاعر في قصيدة أخرى بعنوان “حياة عابرة”:

ألم أفكر بالخروج من الصحراء
ألم أحدّق بالسور
ناظرا إلى أسراب التراب
ناكصا في ظل يمّحي
ألم أجادل
وأنفعل
ألم أحلم
بمقهى وشاي
بامرأة تدوم ثوبها الريح
ألم أنطق
وأفشل
وأضحك من اليأس!

المرارة واضحة في هذه القصيدة التي ينتقي الشاعر كلماتها بدقة، كل صورة تنتقل بنا لصورة أخرى، يتصاعد فعلها الدرامي للتعبير عن رغباته البسيطة، محدّثا نفسه المعاتبة كلما يضيق عليها ألم الحبس.

4 - طريق الحرب/ والخراب

قصيدة “أزف الوقت” كما يكتب في هذا المقطع:

مَن يموت ومَن أجل مَن؟
الفكرة العالية
التي يسردها التراب
في العيون
الجزمات الطويلة التي تخوض في الوحل
من أجل اقتحام المتاريس
وصفد مترين مترين
من الأرض
فيما بعد الحدود
الكلام الذي يجزم
ويصر
وحسبك النداء
يتردّد من أجلك
من أجلِ رفع النقاب عن النكبات
وتأليب المجد على الحاضرين
مَن ينجو منهم
ومَن يموت
في الواقع والخيال.

هذه قصيدة غامضة بصورها الرمزيّة الظاهرة وغير الظاهرة، تعمّد الشاعر أن يجعلها بين منطقتين شعريتين، ذاته المتسائلة، والمخاطب الذي يتخفى بين سطورها، والذي مرّة تجده يشبه المحارب ومرّة السجين، ومرّة شخصيّة هلاميّة لا يمكن الإحاطة بها لتأطيرها بمسمى واضح، لكن تنتهي بسؤال شعري عميق (من ينجو منهم ومن يموت) في الواقع والخيال كما يختمها الشاعر

5 - طريق الحياة الذاهبة

في قصيدة “وداعا”:

وداعا لبائعي
المعايدات من كل صنف
وداعا للجمل المكتوبة في الدفاتر قبل أن نقرأ ونكتب
وداعا للضاحكين من الصعود أعلى الجبل
يستريحون على حجر ناتئ وبعضهم يدخّن
وداعا للطريق الترابي بين نهرين من قصب وطيور
وداعا للسلام
والكلام
في كل شأن
وداعا.

مما لا شك فيه يرثي الشاعر هنا الحياة قبل أن يشيّعها بلا رجعة، بعد أن أصبح للعيش فيها مجموعة من الأنساق التي تضع كل فئة وفصيلة في خانة مُرقّمة، يحركها زرٌ معلوماتي يمتلئ برموز ودلالات.
لعل الشاعر هو الكائن الوحيد في هذا الوجود الذي ما زال يرفض أن ينفطم عن الطبيعة، أو ينفصل عنها في أي ظرف من الظروف التي تعصف بحياته، ولا يمكن للشعر أن ينحسر، مهما تحاول مدونات التفاهة العاديّة أن تحلّ محله، لأنَّ الشعر ببساطة شديدة محرّك الحواس التي تجعل للأشياء مذاقا مختلفا.
التقاطة جميلة جداً يكتبها لنا الشاعر هنا، ألا وهي كما يقول:
وداعا للسلام
والكلام
في كل شأن.

6 - طريق الفقد/ والرثاء

قصيدتان من القصائد الأربع كتبهما الشاعر في ذكرى الميت القريب منه، الأولى بعنوان “رؤية” إهداء إلى إحسان زورة:

رأيتكُ مرّة واقفا قرب باب المستشفى
تدخن
وحدك
وتنظر إلى شيء ما
أمامكَ شيء
لا يراه سواكَ.

يختزل الشاعر قصيدة الرؤية هنا بكلمات قليلة تدّل على ماهية الرؤية، والرؤية تأتي دائما مثل الومضة السريعة بين الصحو واليقظة، زمنها سريع جدا، تمرّ في خاطرنا بين عالمين أحدهما مجهول، نتخيله، والآخر معاش، نلمسه.
في الصورة المحفورة في الذاكرة، الفقيد يؤدي فعل التدخين، صورة واقعيّة من عالم الشاعر، أما الصورة النهائية المفتوحة على تأويلات مختلفة فهيَّ أنَّ الفقيد ينظر إلى شيء ما، لم يحددّه الشاعر، لأنه خارج عالمنا الأرضي المعروف، شيء لا يعرفه سواه في العالم الآخر الافتراضي غير المحسوس بالنسبة للأحياء قصيدة ذكيّة جدا، تطرح تساؤلات عديدة حول الموت وعوالمه التي نجهلها تماما.

أما القصيدة الثانية بعنوان “نزهة” المهداة إلى إحسان زورة أيضا فتقول:

أراكَ وأنا أمشي
دون وجهة
أحث التراب خلفي
أشمه
وكنت ترفو نظري
بالسحب الخفيفة
وتضحك
عندما
أتعثر بالهواء
وأقع
ها هنا
على يمينكَ
أو هناك.

يختار الشاعر هنا، في هذه القصيدة وقت اللهو، كلُّ شيء فيه لعب، يمشي هو المتكلّم بقدميه، لا وجهة معينة، يتبعه الفقيد، لا زمان، لا مكان يشيران إليه، إليهما، لا شيء سوى السحب الخفيفة، صورة مجازيّة لحضور الطبيعة المفتوح، كي تكون ثالثهما، فنطازية الشعر المنفلت بمجازه الذكي جدا، السحابة أصلها هواء، حينما يلامس الخطوة المنقادة للأرض، يحدث التعثر، التعثّر الذي يحيله الشاعر لسطوة الفقيد، وكأن الميت يتحرّر بموته من قيود الحياة.

7 - أشجار الطريق/ طريق الشجر

قصيدة “أشجار الطريق” :

قد تبلغ أعمارها مئات السنين
تبول الكلاب على جذوعها وينحت العشاق على لحائها الأسماء والقلوب
تطيّر أوراقها الريح ليجمعها معتمد الحدائق بأكياس بلاستيكية
مع غيرها من الحشائش والأوراق
تتسلقها السناجب وتتقافز بين أغصانها
وأحيانا تسمع صراخها بعد أن
يحمل الصقر أحد أفراخها ويطير
ظلالها تنقبض
وتنبسط
سادرة في عيون المارّة
في عيون المهرولين إلى الصحة
راكبي الدراجات
لاعبي الفرزبي
يخيفون البط بصحونهم الطائرة
صنعوا منها السفن والعصي
والكراسي
وتحطّبوا
بقروا بها الغزال والسمكة
وتعكزوا
ماتوا
وحملوا بصناديقها.

لعل هذه القصيدة من القصائد المختلفة التي كتبها الشاعر، ببنائها المحكم، وتراصف صورها الواضحة، ولغتها البسيطة غير المعقدّة، إيقاعها هادئ، يبدأ برمز الحياة التي تتحرّك عبر مخلوقاتها وعلاقتهم بالشجرة، وتنتهي بالموت الذي تُصنع توابيته منها:

إذن هي سرّ ديمومة هذا الوجود ونهايته، فلا غرابة أن يحتفي بها الشاعر، بما يحيط بها من حيوات متعدّدة، يصفها بمشهديّة سينمائية تصويريّة جميلة وقد نجح بقفلة القصيدة الرائعة والعميقة.

صادق زورة شاعر ومترجم عراقي ينتمي إلى جيل الشعراء العراقيين الثمانينيين، يكتب نصه الشعري بلغة مقتضبة، يستخدم فيها مفردات صعبة، موحية، تعبيريّة، فتجيء القصيدة مكثّفة وعميقة، لا تفلت نحو الجملة الطويلة التي يقع بعض شعرائها بمكيدة المضاف والمضاف إليه في قصائدهم.
في مجموعته الشعريّة الجديدة هذه، تجد تفاوتا بمستويات قصائده، ربما التباعد الكبير بين مجموعته الشعريّة الأولى بعنوان “آلة الطير” التي صدرت في بداية التسعينات ومجموعته الشعريّة هذه الصادرة عام 2024.