عندما تنتهك الحريَّة الفكريَّة بذرائع أخلاقيَّة

ثقافة 2024/08/07
...

  وداد سلوم

ما زال الواقع الثقافي تحت نصل الرقيب الذي يضع حده على الإنتاج الفكري والأدبي ويتلوّن بشتى ألوان اللباس، فتارة يكون الرقيب السياسي، وتارة الفكري والاجتماعي، وفي كل الحالات يمارس سطوته المستمدة من السلطة السياسيّة أو الدينيّة أو الرجعيّة الفكريّة ليفرض سلطته على الإنتاج الثقافي بتنوعه. والأمثلة كثيرة منذ حرق كتب ابن رشد حتى الآن، وصلت لحدود القتل والاغتيال، واليوم ونحن نشاهد ما تتعرّض له الكاتبة إنعام بيوض وروايتها "هواريَّة" التي نالت جائزة آسيا جبار للرواية الجزائريّة، من هجوم الرقابة الشعبيّة وتصاعد الآراء التي تتناولها نتذكر فرج فودة ونصر حامد أبو زيد ونوال السعداوي وحتى نجيب محفوظ الذي لم يفلت من سلطة الأحكام
القاسية.
أغلقت دار "ميم" للنشر التي طبعت الرواية أبوابها وأعلنت توقفها إثر هذه الحملة، بينما نشاهد أصداء حملة مضادة للتضامن مع الكاتبة وهي المترجمة والشاعرة والفنانة التشكيلية.
وتأتي الحملة ضد الرواية والهجوم على الكاتبة، على خلفية رفض كلمات نابية وردت في الرواية، من دون بيان طريقة استخدام هذه الألفاظ، أو الغرض منها هل كان للإساءة أو الإثارة؟، وما تصعيد الرقابة إلى حدود الألفاظ والمفردات سوى امعاناً في التضييق على حرية الكاتب والإنتاج الأدبي، خاصة أن هذه المفردات اجتزأت من سياقها داخل الرواية، وتم تجاوز نقد الفكرة أو الأسلوب الأدبي والفني لرواية ترصد مرحلة مهمة من حياة الجزائر منذ نهاية الثمانينات، وحتى ما يسمى العشرية السوداء التي امتدت حتى الـ 2000، وشهدت
خلالها الجزائر أحداثاً دامية قادتها الجماعات المتطرفة.
تعرضت لهذه الأحداث مجموعة من الروايات الجزائرية، فقد ذكرتها أحلام مستغانمي في ثلاثيتها "ذاكرة الجسد" كما أن أمين الزاوي في روايته "الأصنام" تطرق إليها راصداً الواقع السياسي والاجتماعي الذي سهل صعود هذه الجماعات وما فعلته، كما تحدثت الروائية فضيلة فاروق عن تفاصيل العشرية السوداء في روايتها "تاء الخجل" وعن مصير ومعاناة النساء اللواتي تم اغتصابهن في تلك الفترة، إذ وصل العدد من خمسة إلى عشرة آلاف امرأة.
 ترصد إنعام بيوض الحياة في مدينة وهران وتغوص إلى القاع الجزائري بواقعية متخمة بكل ما يعيشه الناس فيه من فقر وعوز ومشكلات أسريّة وتعليميّة وتفاوت اجتماعي وانجرار نحو الغيبيات، كل هذا شكل تربة خصبة لنمو التناقضات الفكريّة والسياسيّة جنباً إلى جنب مع انتشار المخدرات وحبوب الهلوسة والدعارة، ثم نمو وانتشار الأفكار الدينيّة المتطرفة والتي استخدمت العنف بلا رادع في محاولة فرض أفكارها وأحكامها على المجتمع كله، وإلغاء أي صوت يختلف عنها حتى لو استخدمت الذبح، تعبر الكاتبة عن التفاوت الاجتماعي وحجمه، يقول هاني عن أمه: "ثلاثون عاماً وهي تغسل صحون المتخمين لتملأ صحون الأفواه الجائعة في
بيتها".
"هوارية" اسم البطلة، لكن هل هناك بطل أو بطلة محددة؟، تعتمد بيوض على تعدد الأصوات في السرد أو ما يسمى (البوليفونية) حيث تقوم الشخصيات بسرد كل منها لحكايتها لتشكل تقاطعاتها الصورة كاملة أمام القارئ، لكن هواريَّة تبدو شخصية رئيسية إذ تشير الكاتبة في تقديمها للرواية إلى أنها اسم يختصر مدينة كانت ولم تزل. تخرج هواريَّة إذاً من إطارها الفردي الذاتي الضيق إلى الرمز. فهي أنموذج المرأة المقموعة منذ البداية لكونها ولدت أنثى، الفتاة الصامتة التي تبدو كظل يتحرك لتتجنب أسباب رفضها، تود فقط السكينة والنجاة من أساليب القمع التي يمارسها المحيط عليها "أسرتها" سواء بالتنمّر على شكلها والاستخفاف بوجودها وبأنوثتها ورغباتها مما أفقدها الثقة بالنفس وبالجسد ولهذا عاشت كأنّها غير مرئية لتتجنّب أذى الآخرين، وخاصة الأخ هواري الذي أسقط الاضطهاد الذي عاناه من والده على أخته، ثم زوجته هداية في واقع متخلف ينخره الفقر الذي يجعل الهم الأول هو سد رمق العيش ثم دفع أجر الغرفة التي قد تقطنها عائلة قد يصل عدد أفرادها إلى أحد عشر نفراً. بينما تنمو المشكلات الأسريَّة الناتجة عن واقع ضاغط، وكذلك فساد التعليم وتفشي اللامبالاة لدى المدرسين والعنف والشتائم البذيئة مع الطلاب الذين ردوا بعدم الالتزام. هذه البيئة التي تختصر القاع وتشابك معضلاته وتناقضاته، ومع ظهور جيل جديد مراهق بدأ بتجربة الحياة ومحاولة إثبات ذاته عبر انتقاء خياراته نرى كيف تسلل الفكر المتشدد وبدأ غسيل الأدمغة والسيطرة عليها بالتعليمات التي يتلقونها.
وتصف أفعالهم الحقيقيّة حين تقول عن هواري إنّه منذ تخشّع مع رفاقه صار يقضي الليالي في كتابة أوراق النعوة وتعداد العزاوات في إشارة إلى أن فعلهم الحقيقي كان تنفيذ عمليات القتل أو تصفية حسابات شخصية تحت ذريعة الدين.
وتذكر حادثة قتل الطبيب الشهير رغم أنّه كان مؤمناً وألف كتاباً بعنوان "الوجه المضيء للإسلام". فحوادث القتل كانت تحدث على الشبهة أو تنفيذاً لأوامر ظالمة، وهذا يذكرنا باستجواب المجرم الذي حاول قتل نجيب محفوظ حين سُئِلَ عن السبب الذي دفعه لمحاولة القتل؟، فقال إنّه "يكتب بما لا يرضي الله" ثم تبين أن المجرم أمّي لا يقرأ.
بالمقابل، تتحدث بيوض عن اليسار التقدمي الذي وقف عاجزاً ومنهكاً أمام الواقع الدامي، فقد كان هدفاً للاغتيال والتنكيل، إضافة لذلك كان يعاني ويتخبط في أفكاره وفي رؤيته للحلول حتى أن ثقته اهتزّت، لأنّه غير قادر على القيام بأيّ خطوة لإيقاف العنف، بينما على الصعيد الفردي الخاص يعيش تناقضاته القاتلة، فالهاشمي الطبيب اليساري يكتب تنظيرات عن الواقع لا يقرؤها أحد، بينما يغرق في علاقاته النسائيَّة وخياناته.
أما رفيقه وشقيق عشيقته الذي ورث ثروة طائلة ينجرف نحو تجارة مشبوهة تقول عنه هالة إنّه "يجمع بين التقدمي والرأسمالي ويملأ حاوياته بالسلع المهرّبة وحتى الأسلحة".
هذا التناقض أفسح المجال أمام الطرف الآخر المتشدد، فبينما اليسار غارق في مشكلاته الخاصة ويعاني من فقدان لغة التواصل مع الجماهير، ومن الفجوة الكبيرة بينه وبينها، نجد المتشدد يستخدم لغتها ومفردات حياتها اليومية ويصل إليها
بسهولة.
 كانت الشرطة تلاحق الشباب والفتيات المتنزهين في الطرق والحدائق وتقوم بحبسهم حتى حضور الأهل والتعهد بتأديب المراهقين، بينما تنمو من دون رادع الجماعات الإرهابيَّة التي بدأت بأعمال شغب في جوار الملاهي لتدميرها والاعتداء على روادها، يقوم هواري بالإيعاز لجماعته بملاحقة أخته وزوجته التي يشك في سلوكها، وهذا طبيعي فقد كان "سمسارا يبيع جسدها" أي يقوم بتشغيلها قبل ذلك. ثم أصبح مرهوب الجانب لدى هذه الجماعات. وجدت هواريَّة في هشام الاهتمام الذي بخلت به العائلة عليها، وبدأت تخرج لرؤيته بواسطة زوجة أخيها التي تستغل الفرصة لمصالحة صديقها "الهاشمي" الوحيد الذي جعلها تشعر بإنسانيتها. لكن أتباع هواري يراقبون الفتاتين ومن دون تبين يقومون بذبح هشام وترك رأسه في يد
هواريَّة.
تلحق به والدته من حزنها ويترك أخوه هاني البلاد، وتصاب هواريَّة بصدمة نفسية قوية لا تخرج منها بسهولة، تتجلى بالنكوص إلى شكل آخر من الغيبيات وتنتهي لقراءة الكف، إذ تشعر بأن هناك ظلالاً تسكنها وتمارس سلطتها عليها. في محاولة للمساس بألم الآخر
ومعاناته.
لكن في النهاية، وبعد كل ما حدث وبعد دفع الأثمان الغالية جراء هذا العنف الذي دفع الشباب الناجي من القتل نحو الهجرة، وخاصة أصحاب الشهادات بما يندرج تحت بند هجرة العقول والخبرات وحرمان الوطن منها، نرى الرجل العامل في البريد يتدخل بلباس هبة، لأنّها سفور ويصفها بالعارية، فتقول "ما زلنا نراوح في مكاننا، فرغم تقلص أعمال العنف إلا أن الفكر المتشدد، ما زال ينخر جسد المجتمع". ولهذا يبدو من الواجب الكتابة عن المرحلة وتقييمها للاستفادة من تجربة
مريرة.
رواية مهمة تضاف لهذا الإنتاج الذي يحمل الهم المجتمعي، ويشير بقوة ومن دون خوف لأماكن الخلل، لكن هذا لم ينجها من الوقوع في المباشرة والإكثار من تفاصيل مع اللغة المحكية التي يجد القارئ صعوبة في فهمها. أما عن تلك اللغة فهي لغة القاع من دون تجميل أو تزييف، وقد أتت على لسان الشخصيات معبرة عن وعي كل منها وأفقه.
وانتقاد الرواية من باب الألفاظ بعد اجتزائها من سياقها ليس سوى إعادتنا إلى الخضوع للرقيب الآمر الناهي، من دون القيام بنقد الرواية أدبياً أو فنياً. مؤسف أن نعود للدفاع عن البديهيات في حقوق المؤلف وفتح الأفق أمام الإبداع غير المحدود، ويذكرنا ذلك بحادثة الدكتورة الروائيَّة المصريَّة منى برنس التي فصلت من الجامعة ومنعت من التدريس على إثر ما نشرته في صفحتها الشخصية في "الفيس بوك" بينما نالت جائزة الرواية الوطنية في الصين. فإلى متى نقلل من شأن مبدعينا؟