بين التصريحات السياسية والواقع القانوني

العراق 2019/06/17
...

د. حسن الياسري
لم أشأ الحديث عن هذا الموضوع طيلة المدة المنصرمة من بداية هذا العام، ولقد كنتُ متردداً في الكتابة عنه لأسبابٍ عديدةٍ؛ لعل من أبرزها أنّ الإعلان عن اجتماع المجلس برئاستهِ الجديدة المتمثلة بالسيد رئيس مجلس الوزراء قد أسفر عن عدم علم الكثيرين بحقيقة هذا المجلس وطبيعة دوره، بل إنّ المدة المنصرمة قد أماطت اللثام عن حقيقةٍ مؤلمةٍ، مفادها عدم علم وإحاطة كثيرٍ من أوساط المجتمع ببعض الأمور البديهية التي يُفترض العلم بها. وحينما تواجهك هذه الحقيقة فإنك ستحتار وتتردد كثيراً في الحديث عن أمرٍ، تحسبه بديهيا، ويحسبه غيرك من الغالبية العظمى أمراً غير معلوم !!! وتزداد الحيرة أكثر حينما تُدرك أنّ الذين لا يعلمونه هم من علية القوم، سياسيون وبرلمانيون وإعلاميون. ولعلَّ هذه المشكلة تتفاقم أكثر عندما لا ينبري أحدٌ لبيان الحقيقة ، فلا مناص والحال هذه من التصدي لإيضاحها، ولو أفضت إلى سخط البعض، من المستفيدين من ظاهرة التجهيل في المجتمع .
الأمر الديواني المتعلق بالمجلس :
عند صدور الأمر الديواني الجديد في عهد الحكومة الجديدة المتعلق بالمجلس الأعلى لمكافحة الفساد، بدأ المنظِّرون والخبراء والمحللّون بالحديث عن أمرٍ وكأنه سابقةٌ جديدةٌ غير معهودةٍ ، وبدأوا بوضع تصوراتٍ طوباويةٍ من عند أنفسهم لأمور ٍسيقوم بها المجلس،  وهي ليست بالأساس من وظائفه وصلاحياته.
فلقد أفتى أحد هؤلاء، ووافقه البعض، بضرورة إلغاء الأجهزة الرقابية، وهي :ديوان الرقابة المالية – هيأة النزاهة – مكاتب المفتشين العموميين – ، والاكتفاء بهذا المجلس، بدعوى أنه يمارس صلاحيات هذه الأجهزة ذاتها؛ لذا لا بد من إلغائها ؛ بغية القضاء على الترهل.
ودعا ثانٍ إلى ضرورة محاسبة الفاسدين من قبل هذا المجلس، وطالب ثالثٌ بإحالة ملفات الفساد إلى المجلس لغرض التحقيق بها، وتقدم رابعٌ بطلبٍ إلى المجلس يروم فيه إثبات برائته ومنحه صك الغفران ... الخ. ثم ضجَّت من بعد ذلك القنوات الفضائية ببرامجها المعروفة، واستضافت العديد من هؤلاء المنظِّرين الذين تحدثوا لساعاتٍ طويلةٍ، في برامج متعددةٍ، عن موضوعٍ ليس له وجودٌ إلاّ في مخيلتهم.
وقد لا أكون مستغرباً حينما ينشأ هذا الخلط والخطأ الفاحش من بعض السياسيين والبرلمانيين؛ فتلك صفةٌ اتصف بها بعض أولئك منذ العام 2003، ولطالما تحدث بعضهم بأمورٍ ونظرّ لقضايا لا تعدو عن كونها أوهاماً لا وجود لها في أرض الواقع.
بيد أنَّ الاستغراب ينشأ حينما يقع في الخطأ ذاته بعض المحسوبين على البيئة القانونية أو بعض الإعلاميين، إذْ انجرفوا كسواهم، وخاضوا كالذي خاضوا، فتوهموا وأوهموا ، في الوقت الذي كان ينبغي لهم التحلّي بالدقة والبحث بموضوعيةٍ؛ فتلك صنعتهم.
وفي الواقع ليس مرامي من هذه المقالة الإساءة إلى أحدٍ مهما كان، بل كل ما أصبو إليه إيضاح الحقيقة التي تاهت في وسط هذا الجو المتلاطم؛ ولذا ذكرتُ قبل قليل ترددي في الكتابة عن هذا الموضوع لأشهرٍ عديدةٍ.
 
هل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد تشكيلٌ جديدٌ ؟ :
إنّ المجلس الأعلى لمكافحة الفساد ، بايجاز، ليس تشكيلاً جديداً كما يعتقد هؤلاء؛ بل هو قائمٌ وقديمٌ ؛ فلقد أُسِّس منذ العام 2007 ابان حكومة السيد المالكي الأولى، بمقتضى الأمر الديواني المرقم 99 في 30/5/2007، وقد أُسِّس تحت عنوان (المجلس المشترك لمكافحة الفساد)، وكان برئاسة السيد الأمين العام لمجلس الوزراء، وعضوية رئيس هيأة النزاهة، ورئيس ديوان الرقابة المالية، وممثل عن المفتشين العموميين. ولقد كان الغرض من إنشاء المجلس آنذاك التنسيق بين الأجهزة الرقابية الثلاثة، وإزالة العقبات التي تقف حائلاً دون انجازها مهماتها.
لقد ظل المجلس المشترك لمكافحة الفساد مستمراً في العمل منذ عام 2007 حتى انبثاق حكومة السيد العبادي في عام 2014، وعند مجيئنا إلى هيأة النزاهة في منتصف عام 2015 كان المجلس قائماً ويجتمع دورياً برئاسة السيد الأمين العام لمجلس الوزراء، وقد حضرنا العديد من الاجتماعات في أثناء مدة عملنا والتي أسفرت عن إصدار العديد من القرارات والتوجيهات التي تهدف إلى التنسيق وإزالة العوائق التي تعتري طريق الأجهزة الرقابية. وقد تقدمنا في حينه بمقترحٍ يرمي إلى إدخال ممثلٍ عن السلطة القضائية في المجلس ليحصل التنسيق الكامل؛ إذ لا فائدة من عمل الأجهزة الرقابية الثلاثة دون وجود القضاء، وفعلاً وافق مجلس القضاء الأعلى على المقترح الذي تبناه المجلس، وأُدخِل ممثلٌ عن السلطة القضائية (وهو السيد رئيس جهاز الإشراف القضائي) ، ليكون عضواً في المجلس آنذاك.
وبعد الإعلان عمّا سُمّي بـ (حزمة الإصلاحات) ابان حكومة السيد العبادي في عام 2015، صدر الأمر الديواني المرقم 340 في 27/8/2015، الذي بمقتضاه تم تغيير اسم المجلس من (المجلس المشترك لمكافحة الفساد) إلى (المجلس الأعلى لمكافحة الفساد) ؛ لكونه أصبح برئاسة السيد رئيس مجلس الوزراء (السيد العبادي) ، وبقيت الجهات السابقة ممثلةً فيه، وهي: 
1. الأمين العام لمجلس الوزراء.
2. رئيس هيأة النزاهة.
3. رئيس ديوان الرقابة المالية.
4. ممثل عن السلطة القضائية.
5. مدير عام الدائرة القانونية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء مقرراً.
ما يعني أنَّ التغيير في هذا الأمر هو دخول السيد رئيس مجلس الوزراء في عضوية المجلس، لأول مرةٍ منذ تأسيسه، وترؤسه إياه . ومنذ نهاية شهر آب من عام 2015 أصبح اسم المجلس  (المجلس الأعلى لمكافحة الفساد) ، ويترأسه السيد رئيس مجلس الوزراء. وقد عقد المجلس آنذاك العديد من الاجتماعات الدورية، التي أسفرت عن إصدار العديد من القرارات والإعمامات والتوجيهات التي سهلت بالمحصلة عمل الأجهزة الرقابية،  وبقيت وظيفته الرئيسة التنسيق بين الأجهزة الرقابية الثلاثة والقضاء. وظل المجلس قائماً طيلة مدة حكومة السيد العبادي،  بل بقي قائماً ومنعقداً حتى بعد أن تحولت تلك الحكومة دستورياً إلى حكومة تصريف أعمال.
وفي عهد الحكومة الجديدة صدر الأمر الديواني رقم 70 لسنة 2018 في 31 / 12 / 2018 ، الذي نص على تكوين المجلس الأعلى لمكافحة الفساد الجديد .
وبإزاء هذا الأمر لابد من إبداء الملاحظات الآتية بكل صراحةٍ وشفافيةٍ ؛ لما لها من الأهمية والمصلحة العامة : 1. وإذْ يكون المجلس قائماً بالأساس من الناحية القانونية، وهو برئاسة السيد رئيس مجلس الوزراء ؛ فلا حاجة البتة للنص على أن يكون برئاسته في الأمر الجديد ؛ ذلك أنّ المقصود برئيس مجلس الوزراء هنا هو الوصف الوظيفي لا الشخصي، وهكذا في ما يتعلق بالأعضاء الآخرين،  من رئيس هيأة النزاهة أو رئيس ديوان الرقابة المالية ، فإنّ تغيير أحدهم لا يستتبع تعديل الأمر الديواني؛ لأن المقصود هو عناوينهم الوظيفية لا أسماءهم الشخصية. وهذا الخطأ – كما غيره في هذا الأمر – قد ينمُّ عن العجلة وعدم الإحاطة القانونية للجهة التي تولت صياغته. 
2. لقد تم إقصاء الأمين العام لمجلس الوزراء من عضوية المجلس الجديد،  وهذا بلا ريبٍ خطأٌ كبيرٌ ما كان ينبغي الوقوع فيه؛ والسبب في ذلك أنَّ وظيفة المجلس هي تنسيقيةٌ – لا أكثر- ؛ ومن ثم فإنَّ القرارات أو الإعمامات الصادرة عنه يجب أنْ توجه عبر قناة الأمانة العامة لمجلس الوزراء ، التي تتولى بحسب طبيعة عملها إشعار الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة كافة بالقرارات والإعمامات والتوجيهات . هذا من جهةٍ , ومن جهةٍ أخرى تتولى هذه الأمانة مهمة متابعة هذه القرارات والإعمامات والتوجيهات ؛ وبإقصاء الأمانة العامة وقع المجلس في فراغٍ كبيرٍ ومستغربٍ في الوقت ذاته قد يُنبئ عن عدم فهم طبيعة عمل هذا المجلس.
3. لقد تم استبدال ممثل المفتشين العموميين في المجلس بأحد المفتشين العموميين الجدد ، وهذا ايضاً خطأٌ ما كان ينبغي الوقوع فيه ؛ إذْ من المفترض أنْ يكون هذا الممثل هو أحد المفتشين الذين ما زالوا في الخدمة منذ سنين عديدة ، ومن ذوي الخبرة والمعرفة بعمل مكاتب المفتشين الأُخرى ، ومحيطاً بكل تفاصيل عملها خلال السنوات الماضية ؛ كي يكون قادراً بحقٍ على تمثيلها، والإفادة من خبرته عند حدوث أية قضيةٍ تتعلق بعمل المفتشين سابقاً وحالياً . نعم في حالة الرغبة باستبدال الممثل السابق بآخر يحلُّ محلّه ، كان بالإمكان القيام بذلك ، شريطة أن يُستبدل بأحد مفتشي المنظومة الآخرين من المتحققة فيهم الشروط المذكورة آنفاً , لا غير ذلك .
4. إنّ دور المجلس تنسيقيٌ لا أكثر، كما توضح لكم من الاستعراض المتقدم؛ وحينما نقول ذلك فإننا لا نقصد الانتقاص من قيمته كما قد يتوهم البعض، فالدور التنسيقي بين الأجهزة الرقابية والقضاء مهمٌ جداً، ولا سيما بحضور السيد رئيس مجلس الوزراء .
5. قد سمعنا بعض التصريحات - التي لا نعلم مدى صحتها ودقتها – من أنّ المجلس يطالب الآخرين بأنْ يُقدِّمو إليه ما لديهم من أدلةٍ وغيرها مما يتعلق بالفساد !!وهنا لابد من تنبيه الإخوة الأعزاء في المجلس من مغبّة الوقوع في الخرق القانوني أو مصادرة عمل المؤسسات الدستورية الأخرى، وأعني بها تحديداً:                                                                          القضاء، وهيأة النزاهة، وديوان الرقابة المالية .
إذْ إنَّ الشكاوى تُعرض أمام ساحة القضاء ، وهو المسؤول عنها ، ولا يمكن سلبه هذه الصلاحية والمسؤولية الدستورية . أمّا الشكاوى والبلاغات المتعلقة بمزاعم الفساد المالي والإداري فإنها تُقدم إلى هيأة النزاهة، ولا يمكن سلبها هذه الصلاحية الدستورية والقانونية، وهكذا في ما يتعلق بعمل ديوان الرقابة المالية وصلاحياته القانونية ؛ لذا فإنّ ما يدعو إليه البعض من إقامة هذه الشكاوى وغيرها أمام المجلس هو أمرٌ في غاية الغرابة ، ولا أتردد في القول بأنّه قد يُفصح عن عدم فهم طبيعة عمل هذا المجلس !! هذا من جهة ٍ، ومن جهةٍ أخرى إذا افترضنا أنَّ البعض استجاب وقام بتقديم الشكاوى أو الأدلة المتعلقة بمزاعم الفساد، وغير ذلك، إلى المجلس، فالسؤال المحوري هنا :
 
ما الذي يملكه المجلس من الناحية القانونية بإزاء ذلك ؟؟
إنَّ الإجابة عن هذا السؤال لتكشف بالدليل القاطع ما سبق قوله من أنّ وظيفة المجلس تنسيقيةٌ لا أكثر!!!
فهل يملك المجلس محاكم مختصةً به ومنفصلةً عن مجلس القضاء الأعلى يُحيل إليها هذه الشكاوى التي يتسلمها ؟ أم أنه سيحيل هذه الشكاوى إلى القضاء العادي ومحاكمه – المرتبطة بمجلس القضاء الأعلى-؟ 
بطبيعة الحال ليست لدى المجلس محاكم مختصةً به ، وبالتأكيد لن يكون بوسعه سوى إحالة هذه الشكاوى إلى المحاكم العادية – المرتبطة بمجلس القضاء الأعلى - ، وفي هذه الحالة ستنظر هذه المحاكم في الشكاوى،  فإنْ كانت متعلقةً بالفساد، قامت بإحالتها إلى الجهة المختصة، وهي هيأة النزاهة، للتحقيق بها على وفق القانون، وإنْ كانت لا تتعلق بالفساد ، نظرت بها بحسب الاختصاص النوعي؛ الأمر الذي يعني أننا مررنا بهذه الحلقة المفرغة لنعود من جديدٍ إلى الجهة المختصة ، وهي القضاء وهيأة النزاهة !!
أمّا إذا كانت الشكاوى أو البلاغات المقدمة إلى المجلس تتعلق ابتداءً بمزاعم الفساد ، فليس أمام المجلس في هذه الحالة سوى إحالتها إلى الجهة المختصة، وهي هيأة النزاهة، ما يعني أننا عدنا إلى ما بدأنا، ولم يكن المرور بالمجلس سوى قناةً أخرى زائدةً ؛ إذ إنَّ الهيأة تتسلم الشكاوى ومزاعم الفساد ابتداءً وبشكلٍ مباشرٍ عبر موقعها الرسمي وخطوطها الساخنة ومكاتبها المنتشرة في المحافظات .
إنَّ كلَّ ذلك ليؤكد ما مضى بيانه، وهو أنَّ المجلس ما كان إلاّ جهةً تنسيقيةً، وما ينبغي له أنْ يكون غير ذلك . أمَّا القول بخلاف هذا، فإنه سيوقع المجلس في إشكالياتٍ قانونيةٍ من جهةٍ،  ومجتمعيةٍ من جهةٍ أخرى . أمَّا الإشكاليات القانونية فتتمثل بالتجاوز والتمدد على صلاحيات المؤسسات الدستورية المذكورة آنفاً، ولاسيما القضاء وهيأة النزاهة. وأمَّا الإشكاليات المجتمعية، فإنَّ الرأي العام – وبسبب التصريحات المغايرة لواقع المجلس – سيسأل بعد مرور سنةٍ أو سنتين مثلاً ، عن الإضافة التي أضافها هذا المجلس فعلاً وحقيقةً على أرض الواقع،  وعن الانجازات التي حققها على وفق الفهم المغاير لواقعه ؟؟ وعندئذٍ سيجيب البعض بأنه جهةٌ تنسيقيةٌ ليست له صلاحياتٌ قانونيةٌ يستطيع من خلالها تحقيق تلك الإنجازات، وآنذاك سيقعون في ما وقع به البعض سابقاً، من الإعلاميين وغيرهم، عندما قاموا بتهويل موضوع الخبراء والمحققين الدوليين وقالوا بأنهم سيحققون في ملفات الفساد وسيفعلون كذا وكذا , على الرغم من إيضاحنا في وقتها أنَّ القانون لا يعطيهم تلك الصلاحيات ، وأنَّ مهمتهم تقتصر على دعم جهود هيأة النزاهة وإسنادها لا غير ؛ فما كان للرأي العام بعد مرور سنةٍ من هذا الموضوع إلاّ أنْ شرع بسؤال أولئك المروّجين لتلك الفكرة عن الخبراء وعمَّا حققوه , فلم يكن لهم من بدٍ سوى القول إنَّ مهمتهم تقتصر على الدعم والإسناد ، لا أكثر. والأمر سيان فيمن يتحدثون الآن بخلاف الواقع بشأن المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، ولتعلمُنَّ نبأه بعد حين !!!. للحديث تتمة إنْ شاء الله .