ياسين طه حافظ
مثل هذا السؤال لا يبدو مألوفاً في زمن غير زماننا. السبب أنَّ لكل زمانٍ شعراً من حيث الشكل أو اللغة الخاصة المختلفة عن لغة الشؤون اليوميَّة، وله مزاجاته وأجواؤه وإن ظلت أفكاراً أساسيَّة وموضوعات دائمة في الأزمنة والأمكنة كلها، مثل الحب، والانكسار والخيبة والخوف والفقدان. لكن التعبير عن هذه، صار جديداً مختلفاً وفي ذلك آراء واجتهادات.
ما يشغلني دائماً هو لا أحد يستطيع التحكّم بنوع أو طراز الكتابة ولا بموضوعها. لكن الظروف المتغيرة أبدت بما لا يقبل الشك، بأن موضوعات وكتابات شعريَّة لم تعد مؤثرة وصارت تثير الشعور بلا جدواها. صحيحٌ الشعرُ لا يعتمد الجدوى كل الاعتماد، ولكنه يهدف إلى شيء أو أشياء. من هنا صرت غير متيقنٍ من جدوى الهجاء السياسي أو الهجاء الاجتماعي وأنّه مغيّر وداعيةُ ثورةٍ فاعل. تغيير الحكم وتغيير الدول وتغيير هذا الحاكم أو ذاك موكول لصراع القوى، الاقليميّة والدوليّة، وما سقط حكم من غير فعل خارجي وتنظيم، سواء كان مباشراً هذا الفعل أو التنظيم، أو غير مباشر، وعادة كليهما!
هنا يمكننا استعراض الثورات أو الانقلابات من "ثورة" الشريف حسين إلى سقوط الحكم الأخير في بغداد. وليس في العراق لكن أيضاً في مصر وتونس وما حصل يحصل في افريقيا، وصولاً إلى بنغلادش.
الشعر يقوم بمهمة الخطاب السياسي، وقد وصل تعقيد الأمور إلى أكثر من هذا، وتطور فعل المصالح الدوليّة، لأن يسقط أحزاباً ويكوّن أحزاباً وينجز مساومات لا التجارة بعيدة عنها ولا استراتيجيات الدول الاقتصاديّة والدفاعيّة. ما أريد أن أخلص له هو أن الزمان اختلف وثقافة العصر ما عادت تلك الثقافة وهذا حسن. لكن الخطاب السياسي غير الشعر، الشعر فن وله عالمه وأجواؤه. وما علينا إلا فهم الأمور فهماً "واقعيّاً" عقلانيّاً آخذين في الحسبان ما نستطيع أن نفعل وما لا نستطيع وما يمكن أن يكون نافعاً أو يبقينا في فوضى وحتى يتم كل شيء حسبما رُسِمَ وحسبما يشاؤون. أما احترام الشعوب فهو حِلْية مدنيّة ربما للمواساة. فالثقافة الجديدة والعلميّة هنا منقذة. لأنها تمنح فهماً ورؤية وطريق خلاص أو تقليل ضرر. ثقافة كل عصر لازمة وضروريّة له ليفهم وليرى وليعرف كيف يقلل الضرر أو السوء. إذاً أمور معقدة ومنوّعة الساحات "والمخابئ"، يصبح فيها الكلام، والكلام وحده، تهريجاً. والأساليب القديمة والمضامين الفكريّة إذا لم تتجدد على وفق العصر ومتطلباته، تتحول إلى إثارات فارغة وحماسات لمجتمعين، تبرد حالما تفتح الباب ويضربها الهواء فيرى المجتمعون المسلحينَ برشاشاتهم في الشوارع والأبواب. أكثر من هذا، وما يجرُّ كفك لتضعها على خدك، سماع فضائية دولة عاتية تقول لن نقف مكتوفي الايدي أزاء أي تغيير، أو أزاء تعريض مصالحنا للخطر. إذاً، أنا أحرّض ضد من؟ ضد عامل المقهى أم ضد شرطي المرور الواقف يابساً في الساحة؟
هيمنة القوى الدوليّة، المتكافلة سرّاً والمختلفة علناً على أمور أخرى، واحدة من أخطر اللعب السياسيّة في التاريخ. على من يراهن أن يفهم أولاً. وعلى من يراهن أن يكون عاقلاً. أما أن تقصفك دولة عاتية في عقر دارك وتأتيك التهديدات إذا ما ثأرت وأن أمن تلك الدولة المعتدية أمنهم، وينشرون هجومياتهم إذ فكرت بالرد، وعليك أن تتحمل الاعتداء وتلزم الصمت "منعاً للتصعيد" فهذا أشنع وأقذر ما وصل إليه الوضع الدولي.
لقد انتقلوا من مرحلة الحياكة بإبرة إي مرحلة فرض القوة، فرض الهيمنة وشعار: ترتضي ذلك لكي تبقى!
ما أردت أن أشير له أن نخبة من أهل الشعر وأهل القلم، وعلى مدى التاريخ العراقي الحديث، بل العربي الحديث، كانوا يجهدون بأشعارهم لتغيير واقع اجتماعي أو تغيير حكم أو من أجل الحرية أو الخلاص. ومع كل التقدير لهؤلاء وفرحي بالحماسة وبالغيرة الوطنيّة، فليس شعرهم هو الذي غيّرَ وإن أثار هنا وهناك جماعات. التغيير صناعة وصناعة دوليّة، وراءها تكافل الأسواق والمصالح والسيد النفط. والتغيير وسقوط وظهور الحكومات هو حياكة سريَّة بإبرة!، أيضاً لا تقل هذه الرواية أثارت وتلك اطلقت شرارة. نحن في مستوى من الكلام آخر غير هذا. رؤساء الحكومات أو رؤساء قادة الثورات في افريقيا والانقلابات في نصف آسيا يُربَّون تربيةً ويُعَلَّمون. وينبثقون وقد نظموا لهم مخابراتهم وسلطاتهم القمعيَّة! هو هذا ما يسمّى الحياكة بإبرة.
فلا اعتماد على النصائح القديمة، أوامر أو نواهٍ، ولا اعتماد على نتائج تحليل قديمة وفهم قديم للخير والشر. لا اعتماد على أساليب ثقافيّة قديمة في الأدب وفي الفن وفي الطباعة والنشر وفي الصراعات السياسيّة المحليّة والمواجهات الدوليّة. كل شيء تغيّر، وأول ما تغيّر الأفكارُ وطرائق النظر إلى ما يُرى أو يجري. الأدب غير الأدب والفنون غير تلك الفنون والطباعة تطورت بشكل مدهش ومفرح والنشر اليوم ورقاً وأصواتاً وموجات من الفضاء الخارجي. ليبدؤوا العيش حياة جديدة، امتلكوا ثقافة جديدة وما عاد ينفع الصراع ولا اللافتات إن لم تكن وراءهما رؤية جديدة ولا دبلوماسيّة عالية المستوى، ولم تكن وراءهما عقول رصينة وإنسانيّة تُحسن الإشارة إلى ما يجب وإلى ما يوصل إلى الهدف، في مواجهة أو مفاوضة. وأنا أعلم أن المفاوضة مساومة أيضاً! وثمة دائماً ما تتم حياكته بإبرة!