صادق الصائغ.. مكاشفات العمل الأوّل

ثقافة 2024/08/12
...

  ريسان الخزعلي

العمل الشعري الأول للشاعر، أيِّ شاعر، يكشف المتاح المتحقق من ملامح  وخصائص شعريته – حتى وإن كان هذا القول لا يصحُّ معياراً قياسيّاً نهائيّاً - إذ إن التجارب الأولى تتشكل باندفاع يصبو إلى الوصول إلى منطقة الشعر الأبعد، وإلى فكرة الشعر الأكثر بُعداً. والتجارب الأولى هذه، حينما تكون قادمة بفعل مقومات الثقافة والموهبة والتجربة والانحياز إلى وجود إنساني، أرقى وأنقى وأبقى، فإن الشعر سيحمل الكثير من ظلال هذه المقومات. والشاعر الفنان صادق الصائغ يكاشف حساسيّة التلقي في مجموعته الأولى "نشيد الكركدن- 1978" بالكثير الذي يوصف بالشعري.

(1)

إنَّ قصائد نشيد الكركدن - وهي المجموعة الوحيدة التي صدرت له في العراق قبل منفاه الاضطراري، ولم نتوافر على ما صدر له هناك- كما يقول الشاعر في المفتتح الاستهلالي: ترمز إلى الإنسان الذي حاصرته البنادق في غابة الرأسمال، إنّه، وقد حُوّل إلى كركدن يبحث عن مخرج، يهجم ويُهاجَم، ينزف ويستنزَف، وأثناء ذلك يُدلي بشهادة، هي في آخر الأمر نشيده الإنساني المرير.

وفي هذا النشيد الذي يُشير إلى تجربة الشاعر الفكريَّة، ورغم محاصرة الإنسان في وجوده، يؤكد بأن هذا الإنسان يبقى رهانه لأن يكون زهرة اتّقاد:

يا رياح السنين 

لامسيني،

 لامسي حطب الجسد المستكين

لامسي قلبَه، فهْو لم ينسَ شيئاً

وهو لن ينسَ شيئاً 

إنّه زهرة الاتّقاد الحزين.. 

ويمكن الملاحظة أنَّ "لن ينسَ" جاءت هكذا لضرورات الوزن/ بحر المتدارك على الأرجح.

(2)

الشاعر صادق الصائغ من الجيل الخمسيني، كما جاء في كتاب "الموجة الصاخبة" إلّا أن قصائد المجموعة مكتوبة بين عامي 1966– 1968، وهي سنوات تُشير إلى جيليّة ستينيّة، إذ تتضح فيها مناخات الشعر الستيني مع خصوصيّة مغايرة لها علاقة بالبُعد الإبداعي الآخر، البُعد الفنّي الذي كان لصيق البُعد الشعري:

منذُ ألفٍ وألفِ

أصيرُ غباراً

أُتّكي في الكراسي القديمة ولا أعترف..

(دو، ري، مي، فا، سو، لا، سي.. أحبُكِ

لكلِّ الأسباب وأهجرك بدون سبب وأنتظر 

دو، ري، مي، فا، سو، لا، سي).

إنَّ الشاعر في أكثر من قصيدة يُجرّب الغرابة الفنيّة التي لفحت الشعر الستيني، بما في ذلك تداخل النثر مع الشعر، والحوار، والمشهديَّة الدراميَّة، الأقواس المتعرّجة،  لتشكيل هذه الغرابة على مستوى الشكل الشعري الجديد:

(كم من الخيال تحتاج كي تسمع في اللحمة المشويّة الموضوعة على المائدة حشرجة الخروف عندما ذُبح. يساعدنا هذا الشعر الموصول إلى تلك الجزيرة النائية من الخيال حيث تُدجّن الغرابة: من مقدمة المجموعة - نجيب المانع). 

(3)

في تجربة "نشيد الكركدن" تتعالق محنة الشاعر الوجوديَّة مع محنة الآخر المشابهة، سواء كان هذا الآخر في داخل الوطن أو خارجه، إذ ينصت بعمق إلى: هدأة المشنوقين، حالة الانتحار- ابراهيم زاير صورتها الأقرب، شهدي عطية، الجنون، الاغتيال، الدم في تشيلي، المرأة اليائسة، ضبابيّة أيّام الأسبوع، ثقوب الرصاص، الدم في الحيطان. ومن هذا الإنصات يضيق التنفّس بعد أن علقت الحكايات ورقاً في الرئة:

إذن أنت عشب قديم 

هواء قديم وبئر قديم.. (قديمة.. البئر مؤنث)

وكلُّ منافذه المغلقه

وأنت تُحلحل فوق جداري

ظلالاً وناراً

تحلحل لي كل انحائك المطبقه

أنت في رئتي ليلة تحترق

أنت في رئتي ورقه..

(4 )

إنَّ لغة الشاعر، وإن صَفَت في معظم صياغاتها، إلّا أنَّ هنالك بعض ما يُزاحم هذا الصفاء أحياناً من مفردات نافرة من تماسك القصيدة، وإن كانت قصديَّة، مما يجعل هذه اللغة متمرّدة على المواصفات والأصوليات "وفي الليل كان الخليل وحيداً يجوب الشوارع في كوستاريكا ويسمع شخصاً يحثُّ خطاهُ ويسأل: أينَ المراحيض  يا مدموزيل".

وكما هو معروف، أن الصائغ موصوف من بين بعض الشعراء الذين يمشون شعراً، ويلمسون فنجان القهوة بشاعريّة، صوتهم شاعري، تعجّبهم شعري. والصائغ حتى إذا أنكر أنّه شاعر كذّبت قولَتَه الطريقة التي يسأل بها عن الوقت: نجيب المانع - المقدمة.

أما الصورة الشعريَّة في شعر الصائغ، فهي حسّيَّة واضحة، طيّعة على الملامسة، لا تماس لها مع ما هو ذهني، لأنَّ الشاعر ليس من أصحاب التجارب الباطنيَّة، ولا الطواف الصوفي، إنَّه شاعر تجربة سياسيّة/ فكريّة في التكوين الأوّل والاستمرار. ولذلك أوحت هذه الصورة الشعريّة إلى الفنان كاظم حيدر لأن يجعل من تخطيطاته نصوصاً موازية للنصوص الشعريَّة:

يا سيّدي النوافذْ

مسدودةٌ بالطين

وها هي المآذن 

أردافها تهتزُّ للآتين

ويرتقُ الزمانُ تحت الشمس ثوب العُمر

وما يزالُ الدمُ في الحيطان 

وما يزالُ الموتُ في الأسنان

وما يزالُ القاتلُ المجهولُ غولَ الليل 

وذلك المُلقى على الأسفلت في البرد هو الإنسان.

وفي المفتتح الأخير، ألم أقل أن مكاشفات العمل الأوّل تحمل إنصات تجاربها، تلك التجارب الراسخة كالطفولة؟