متعافون يروون قصصَ المخدراتِ والمؤثراتِ العقليَّة

ريبورتاج 2024/08/13
...

 بغداد: رشا عباس
 تصوير: مصطفى الجيزاني

عند الدخول الى مستشفى العطاء لعلاج الإدمان والتأهيل النفسي في بغداد، يراودك إحساسٌ بالخوف والرعب كيف تواجه أشخاصاً مدمنين تعاطوا المخدرات بمختلف أنواعها، لكن بمجرد الدخول الى أروقة المستشفى تشاهد الشباب هم من يبحثون عمن يساعدهم للتخلص من تلك الآفة ويأخذ بأيدهم نحو الخلاص والقضاء على هذا الوحش المرعب الذي تلبس بداخل كل واحد منهم.
(الصباح) في جولة ميدانيَّة شاهدت الشبابَ برفقة الأهالي يدخلون المستشفى ويتحدثون الى الطبيب الاستشاري من دون خوفٍ من المساءلة القانونيَّة. بالمقابل يستقبلهم الطبيب ويرحب بهم كون أبنائهم ضحايا ويحاول أنْ يقدم يدَ العونِ من التحول الذي من الممكن أن يأخذ بأيديهم نحو التهلكة ويزعزع أمن المجتمع.

حماية الأطباء والمدمنين
الفكرة لاقت نجاحاً كبيراً في مستشفى العطاء، وأخذت الأمور تجري بانسيابيَّة كاملة بدعمٍ من (سرايا السلام) الذين يقدمون العون لانتشال هذه الشريحة من الضياع، ومحاربة تلك الآفة من خلال توفير الأمن التام الذي لعب دوراً مهمَّاً في حماية الأطباء والمدمنين من أي خرقٍ يهددُ حياتهم من ناحية، وعدم إدخال أي مادة مخدرة وتفتيش الأهالي عند الدخول من ناحية أخرى، بحسب الدكتور مصطفى علي الساكني مدير مستشفى العطاء للإدمان والتأهيل النفسي.
وأضاف الساكني: "نستقبل يومياً تقريباً من خمسين الى ستين مريضاً بين المراجعة والمتابعة لكون المريض الذي يخرج من المستشفى يبقى يراجع لمتابعة حالته بعد الإدمان"، وأشار "جميع الحالات كانت صعبة لا سيما متعاطي مادة (الكريستال) المخدرة، إذ تبدأ أعراض المريض الانسحابيَّة في أول أسبوع الى أسبوعين، هنا المرحلة الصعبة التي يحدث فيها الهيجان والعدوانيَّة والتصرفات غير الواعية فيدخل المريض الردهة الفرديَّة المهيأة من جميع الجوانب ويستمر لمدة أسبوعين بعدها ننقله الى الردهات الجماعيَّة، إذ يبدأ هناك التأهيل النفسي من قبل الأطباء، ويتحدث الباحثون مع المريض ويتعرفون على أبرز مشكلاته ويحاولون مساعدته بمختلف الأساليب المتاحة. وهي من دون شكٍ تصبُّ في مصلحة المدمن مثل الرسم والرياضة والشعر وغيرها من الفنون".

جهودٌ استثنائيَّة
وأوضح الساكني "حاولنا بالتعاون مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعيَّة مساعدة بعض المتعافين من خلال زجهم في ورشٍ لتعليم بعض المهن كالخياطة والنجارة والحلاقة وإعطائهم السلف الماليَّة كي يبدأ المتعافي من الإدمان حياة جديدة"، وأكد "من المفترض أنْ تكون هناك جهودٌ استثنائيَّة بفتح وحدة بالمستشفى لمتابعة المريض عند خروجه لمدة سنتين أو أكثر بحسب ما معمولٌ به في الخارج، كي نعطي إحصائيَّة للمريض يبقى فيها متواصلاً شهرياً، فضلاً عن البوادر التي بدأت تقدم للمستشفى من مختلف الجهات ضمنها جامعة سومر التي عرضت مبادرتها بإشراك الباحثين الاجتماعيين الذين يرغبون بالعمل التطوعي لمتابعة المريض في التأهيل النفسي".
وتمنى مدير المستشفى "على الشخصيات المؤثرة بالمجتمع لا سيما شيوخ العشائر أو الشخصيات الفنيَّة والرياضيَّة المعروفة في (السوشيال ميديا)، كذلك منظمات المجتمع المدني أنْ يلعبوا دوراً في توعية الشباب كلٌ من مكانه وموقعه؛ لأنَّ الشاب يسمعُ من تلك الشخصيات ويتأثر بها".

مسؤوليَّة إنسانيَّة
بدوره أوضح الطبيب الدوري المقيم سجاد حسين مكطوف "نعمل في المستشفى لاستقبال حالات الإدمان والتأهيل النفسي، وأغلب الحالات التي نتعامل معها هم من شريحة الشباب الذين يقعون فريسة المخدرات والمؤثرات العقليَّة المنتشرة بكثرة في العراق ونتعامل مع المادة المخدرة الخطيرة "الكريستال"، وهو مخدرٌ صناعيٌّ منتشرٌ بكمياتٍ كبيرةٍ بين الشباب والذي يسبب إدماناً من الجرعة الأولى ويقع الشباب في فخها".
وأضاف "نحاول قدر الإمكان التعامل مع تلك المادة إما عن طريق دخول ردهة الإدمان أو في المنزل مع متابعة الأهل، فضلاً عن التعامل مع مخدراتٍ أخرى ممكن أنْ تكون طبيَّة لكنْ يساء استعمالها مثل مادة الترامال والفاليوم"، وأبدى سجاد "أسفه من انجرار الشباب والسقوط نحو الهاوية"، وبين "من خلال تماسي المباشر مع المريض وجدت هناك مرضى في وضعيَّة سيئة جداً من الناحية النفسيَّة، منهم من يؤذي أهله والقريب منه، وبعد أسبوعين نلاحظ اندماجه بالمحيط المجتمعي ونحن كأطباء لا نتعامل مع الشاب مريضاً متعاطياً بل هو ضحيَّة ونحاول قدر الإمكان مساعدته".

التأهيل النفسي
المعالج النفسي أمير الحسناوي أشار الى طبيعة المشكلات التي تؤدي بالإنسان الى تناول المخدرات أو الكحوليات بأنَّ "معظمها تتلخصُ بالمشكلات العاطفيَّة أو الأسريَّة أو الاجتماعيَّة أو تأثير الأقران أو الاقتصاديَّة أو ما شابه ذلك، لكنْ بالعموم يجب أنْ يفهمَ المجتمع أنَّ شخصيَّة المدمن هي أسبابٌ مكتسبة جراء حالات الضعف وعدم مواجهة المشكلة التي يمرُّ بها، الأمر الذي يجعله يلجأ الى تعاطي المخدرات والمشكلة تتفاقم كونها واقعة في العقل الباطني للإنسان الذي يحول أفكاره نحو الخطأ".
وأوضح الحسناوي أنَّ "مراحل العلاج التي يمرُّ بها المدمن هي ثلاث، الأولى هي مرحلة الإقناع، ملخصها  أنَّ المريض المدمن مقتنعٌ أنْ يراجع المستشفى لتلقي العلاج، والثانية هي العلاج الدوائي أما الثالثة فمرحلة التأهيل النفسي التي تتضمن جلسات التأهيل الفرديَّة والجماعيَّة، تلك الجلسات تتضمن دراسة كاملة لشخصيَّة المدمن من الناحية الشخصيَّة والعقليَّة والأسريَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والعاطفيَّة تدرسُ من قبل الباحث المختص بعدها توضعُ دراسة كاملة لشخصيَّة المدمن، وكلّ مدمن لديه برنامجٌ علاجيٌّ يوضعُ يختلفُ عن الآخر حتى لو كان أخاه إذ يعتمد على نوع الشخصيَّة والتفكير والمنطق والإدراك العقلي والذكائيَّة.. والفروقات الفرديَّة جميعها تؤخذ بنظر الاعتبار في وضع البرنامج العلاجي".
ونوه أمير بأنَّ "العلاج النفسي ضروريٌّ لمعالجة الاضطرابات النفسيَّة التي يعاني منها الإنسان نتيجة قلقٍ وتوترٍ واكتئابٍ وحزنٍ وحدة خوف وتعبٍ نفسي، ولو أنَّ الإنسان المدمن قبل إدمانه طرقَ باب المعالج النفسي أو باحثٍ متخصصٍ لوجد حلولاً علميَّة لمشكلته، فالكثير من حالات العلاج النفسي مهمة للتخلص من الأفكار التراكميَّة وبالتالي نرى دور العلاج وأهميته الكبرى في التخلص من تلك الاضطرابات المؤثرة في العقل الباطن للإنسان".
قصصٌ وإرهاصات
مدمنٌ رفضَ الإفصاح عن اسمه، إلا أنه يحملُ شهادته الماجستير في علوم الكيمياء ويجيد اللغة الروسيَّة، قال بما يشبه الندم "إنها كانت غلطة لا يمكن تكرارها والآن أتلقى العلاج بإرادتي حفاظاً على سمعة عائلتي وضياع مستقبل أولادي جراء خطأ ارتكبته"، وأشار الى "المادة 40 من قانون المخدرات والمؤثرات العقليَّة لسنة 2017 سمحت لكل شخصٍ مدمنٍ بأنْ يذهبَ للمصح من تلقاء نفسه ليبتعد عن المساءلة القانونيَّة وهذا القانون كان فرصة لتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه"، مقدماً "الشكر والتقدير الى الأطباء الذين انتشلوه من فخ الإدمان".
من جانبه، أوضح حسين قتيبة الذي كان يعمل سكرتيراً لدكتورة: "أصدقاء السوء أوقعوني في فخ الإدمان بحيث لا أدفع ثمنها، إلا أنَّهم بعد فترة طالبوني بدفع مبالغ لشراء المخدرات الأمر الذي اضطرني لمطالبة أهلي بالمال، ما دفعني الى التجاوز على والدتي والضغط عليها واقتراض المال من الآخرين، ودفعاً للضرر الذي يصيبها جراء امتناعها وهذا الأمر كان دافعي الأول والأخير لتسليم نفسي الى المصحة للعلاج كوني وجدت الطريق قصيراً أمامي إما الموت أو السجن"، كاشفاً عن "نيته بعد الخروج من المستشفى إكمال دراسته وابتعاده عن أصدقاء السوء".
وشاطره الرأي عبد الله منير نجم بأنَّ "رفقة السوء هم أساسٌ مدمرٌ للشخصيَّة المتزنة فهو كان طالباً مجتهداً إلا أنَّه ترك الدراسة واتسخ عقله بهذه المواد النازعة للإدراك والمؤدية الى الضياع المحتم وأتذكر كيف استنشقت هذا السم القاتل وأنا جالسٌ في مقهى قدم لي بطريقة سهلة ورخيصة بعدها دفعت أضعاف ما قدم"، وأبدى في النهاية "ندمه على ما فعل"، طالباً من أهله إرساله الى المستشفى لتلقي العلاج"، وتمنى أنْ يخرج إنساناً مختلفاً.
مصطفى عادل (سائق تكتك) في العشرينيات من عمره يصف الحالة التي كان عليها وهو تحت الإدمان "إذ كان يرى الركاب ومن حوله كائنات أخرى لا تنتمي الى الإنسان وأنَّه أقوى بكثيرٍ من أي الموجودات رغم هذا كنت صيداً سهلاً للمخدرات والمؤثرات العقليَّة في لحظة صحو أيقظتني ممَّا كنت فيه حين ذرفت والدتي دموعاً ساخنة على حالي التي وصلت إليها وهنا استحضرت رجولتي وذهبت بنفسي لأدخل مستشفى العطاء واليوم والدتي في قمة السعادة وهي تراني وتسمع صوتي أكثر توازناً وقبولاً".
وأنصح الشباب المخدوعين الذين أصبحوا صيداً للمخدرات أنْ "يكونوا أقوياءً في مواجهه هذه الآفة المهلكة".

ردود أفعال ذوي المتعاطين
مواطنون عانوا من آفة المخدرات التي أصابت أولادهم بمقتل، رحبوا بفكرة مستشفى العطاء لمكافحة الإدمان والمؤثرات العقلية التي عصفت بعقول الشباب وأخرجتهم من طور التفكير والوعي الى عالمٍ متخيلٍ غير حقيقي يؤثر في طبيعة المجتمع العراقي على وجه الخصوص، لا سيما أنَّ هذه المخدرات تترك أثراً بالغاً في صحة الأبناء وتبعدهم عن التحصيل الدراسي، ولعلَّ أهم أسباب الإدمان هو الفراغ والبطالة، لذا فإنَّ العلاج لا يكفي وحده لانتشال هؤلاء المتعاطين، بل يحتاجون الى فتح آفاقٍ جديدة للعمل، فالشباب ذخيرة المجتمع ويترتب على ذلك العمل الجدي من جميع المؤسسات ذات العلاقة والسعي الى دمج هؤلاء في أعمالٍ تنفعُ المجتمع وتؤدي أغراضاً صالحة.
ولفتوا الى "ضرورة مراقبة الحدود من تسلل المهربين وهم يحملون أكفان الموت الى شبابنا، وإشغالهم بأمورٍ جانبيَّة لكنها قاتلة وتؤثر في الوقت نفسه في الأسرة العراقيَّة".