عدنان حسين أحمد
يُصنّفُ فيلم (53) للمخرجة البرتغاليَّة صوفيا بورجيس ضمن الأفلام الوثائقيَّة الروائيَّة المرصّعة بلمساتٍ تجريبيَّة ويعالجُ ثيماتٍ عديدة أبرزها العنف والاستعمار البرتغالي وتداعياته المعروفة مثل القمع، والاضطهاد، ومصادرة الحريات الخاصَّة والعامَّة، والنهب المنظم لثروات البلاد الاقتصاديَّة، وسرقة الجهد العضلي للمُستعبَدين الأفارقة في جمهوريَّة ساو تومي وبرينسيب الديمقراطيَّة التي تعدُّ أصغرَ دولة في قارة أفريقيا التي لم يصل تعدادها السكاني حتى الآن الى ربع مليون نسمة.
تتمحور ثيمة الفيلم الرئيسة حول مذبحة 53 أو حرب الترينيداد التي حدثت في 3 شباط/ فبراير 1953 حيث قامت قوات الشرطة الاستعماريَّة البرتغاليَّة بالهجوم على جزيرتي ساو تومي وبرينسيب وقتلت المئات من السكّان الأصليين، بينما سجنت البعضَ الآخرَ منهم في معسكر فيرناو دياس ومارست ضدّهم أبشعَ أنواع التعذيب من بينها إفراغ مياه البحر بالدلاء، واستعمال الكراسي الكهربائيَّة لإجبارهم على الاعتراف بالمشاركة في المؤامرة ضد القوات البرتغاليَّة.
تعتمدُ المخرجة في هذا الفيلم على تقنيَّة المُعالج التقليدي الذي يستدعي الأرواحَ ويطرحُ على أصحابها أسئلة عديدة من بينها السؤال الذي أفضى بها إلى القتل، فهي تمرُّ بمرحلة السجن والتعذيب قبل أنْ تواجه مصيرها المحتوم. يقرر المُعالج أنْ يلتجئ إلى الغابة لمدة يومين وعندما يعودُ إلى المدينة يخبر زعماء الجزيرة بأنه سيستنطق الماضي لكي يفهم الظاهرة الغريبة التي حدثت في جزيرة فيرناو دياز حيث أقام السكّان المحليون بوضع أحجارٍ كبيرة حول الجزيرة وبدؤوا بسدّ الطرق المؤدية إلى البحر، وأقاموا ألعابًا ناريَّة على السواحل، وكدّسوا الأكل والشرب هناك، ثم عزفوا الموسيقى، ورقصوا حتى هدَّهم التعب لكنهم بدؤوا يتساقطون الواحد إثر الآخر، الأمر الذي دفعهم للعودة إلى البحر. أمّا الراوي الذي تمَّ استدعاؤه فقد سُجن، وتعرض للتعذيب الممنهج، إذ أجبروه على أنْ يحفرَ حفرة في رمال الشاطئ ويطمر نفسه فيها باستثناء رأسه الذي سيظل مشرئبًا ويتطلع بعينيه صوب أمواج البحر المتلاطمة. وحينما يُخلى سبيله فإنَّه لا يعود إلى المدينة وإنما سوف يُوضع على لوحٍ خشبي ويظلُّ عائمًا على وجه الغَمَر. لقد عمّ الخوف وأُصيب الناس بالذعر الشديد. ففي كل يومٍ كان يختفي أحد المواطنين وكان والد الراوي ينامُ في أعلى شجرة النخيل ويتوارى بين سعفها. ومع كل هذا الحذر فقد قُبض على الأب وابنه في غارة بينما كانا في طريقهما إلى الكنيسة مع أناسٍ آخرين. أمّا أُم الراوي فقد أنهكها التعب بعد أنْ ركضت كثيرًا لتلحق بالشاحنة ولا تزال تبحث عن زوجها وابنها المسجّلين في عِداد المفقودين.
ثمة مَشاهد كثيرة لا تُنسى في هذا الفيلم القصير الذي لم تزد مدته على 15 دقيقة من بينها مُشاهدة الرجال المختبئين في أعلى أشجار النخيل لمنازلهم وهي تحترقُ وتلتهمها ألسنة النيران الكثيفة، أو مَشهد الروح المستدعاة سواء وهي تظهر من وسط الماء أو وهي تغوص فيه إلى الأبد. ثمة زوارق محملة بالبشر يحاول ربابنتها أنْ ينقذوا الناس لكنهم يغرقون بينما هم يحاولون الإفلات من غارات الشرطة الاستعماريَّة التي تسعى لإجبارهم على العمل في المزارع بعقودٍ خاصة تبخسهم فيها حقهم، وتُصادر جهدهم البدني.
لا يخلو الفيلم من بعض المواقف الميتافيزيقيَّة، فالأب الذي يؤدي صلواته اليوميَّة ويستعين بها للاختفاء والتواري عن أعين الشرطة التي تلاحقه في كل مكانٍ يطأه، وذات مرة لاحقوه فتوارى في جذع الشجرة، بل أنه يستطيع أنْ يتحول إلى عصا. وبينما كان البعض يقشر لحاء الأشجار عثروا عليه فأطلقوا النار وأردوه قتيلًا في الحال. يلتجئ أهالي الجزيرة، في الأعم الأغلب، إلى الغابات التي تخبئهم عن أعين الشرطة الكولونياليَّة وحينما يُقتل أحدهم كانوا يدفنون جثته تحت شجرة موز لكي لا يطأ على جثمانه أحدٌ ولكي لا يتعرّف عليه الأعداء الذين لا يكفّون عن البحث والملاحقة مهما تقادمت الأيام.
وفي الختام لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ صوفيا بورجيس هي باحثة وفنانة تشكيليَّة برتغاليَّة تعملُ في مجال المجتمعات المحليَّة والسياسة، فضلاً عن تخصصها السينمائي القائم على الرصد والبحث والمتابعة الدقيقة التي شملت السكّان المحليين، فقد كرّست حياتها إلى الأنثروبولوجيا والسينما والثقافة البصريَّة بشكلٍ عام. أنجزت بورجيس حتى الآن أربعة أفلام وهي على التوالي: “سولو صوا” و “كنتُ منتجة لنفسي” و”53” و “ماكسامبا”. وقد فاز فيلم “ماكسامبا” بجائزة أفضل فيلمٍ وثائقيٍ قصيرٍ في مهرجانيّ مومباي السادس للأفلام القصيرة ومهرجان ميارت السينمائي الإيطالي.