بائع كتب يستذكر حكايات من الماضي

ثقافة شعبية 2019/06/17
...

علي ناصر الكناني
بالقرب من مقهى الزهاوي في أقدم وأعرق شارع عرفه البغداديون (شارع الرشيد)،إذ تنتشر العديد من المكتبات والمحال المتخصصة ببيع الكتب والمطبوعات والصحف والمجلات القديمة . اتخذ بائع الكتب(رياض فدعم) تولد عام 1960 من أحد هذه المحال مكانا لعمله في بيع وشراء مختلف انواع الكتب والصور القديمة, وقفت امام واجهة محله وانا امعن النظر بمجموعة من الصور التراثية التي يعود بعضها الى فترة العهد الملكي واخرى الى العهد الجمهوري والى الاعداد الكبيرة من الكتب المنوّعة والتي تكدّست على ارض المحل ورفوفه وبشكل عشوائي وغير منظّم، فقلت في نفسي كيف يتمكّن هذا الرجل من تلبية طلب من يحتاج الى كتاب محدد من بين هذه الاكداس التي تجاوزت المئات من الكتب والمطبوعات بأنواعها، فيأتي الجواب على لسان فدعم حين سألته عن ذلك بأنه يعرف مايحتوي محله منها - كما يقول - بحكم الخبرة الطويلة وممارسته في هذا المجال والتي تعود بداياتها الى عام 1970 والتي ابتدأت كهواية محبّبة، مما دفعني لاقامة معرض خاص لهذه الكتب وما امتلكه من صور تراثية وفولكلورية قديمة خلال دراستي في المراحل المتوسطة، وقد نال المعرض اعجاب واستحسان الكثيرين ممن زاروه، ثم تحولت هذه الهواية وبتشجيع من مدرس مادة التاريخ الى مهنةاعتاش منها وعائلتي من ذلك الوقت وحتى الان . وقد حرصت منذ البداية على اقتناء ماهو نادر وثمين منها سواء الكتب او الصور القديمة عن طريق الشراء من شارع المتنبي او من باعة التحف او المقتنيات القديمة في الميدان وسوق الهرج . ويصمت قليلا لتعلو وجهه لمسة من الحزن وأسى شفيف, ويواصل فدعم حديثهقائلا : “لقد اضطررت خلال فترة الحصار التي مرت بها البلاد في السنوات الماضية لبيع الكثير مما امتلكه من الكتب والصور الفريدة بالاسود والابيض والتي يعود زمنها الى الثلاثينيات والخمسينيات ولفترات مختلفة من تاريخ العراق لأتمكن من سد احتياجات عائلتي المعيشية, ولست الوحيد في هذا الامر فأنا أعرف اشخاصا معروفين كأدباء ومثقفين اتحفظ عن ذكر اسمائهم قاموا هم او عوائلهم بعد وفاتهم ببيع كتبهم ومقتنياتهم بسبب وضعهم المعيشي المزري والتي كنت أتمنى أن تتولى الجهات الرسمية الثقافية عملية شراء هذه المقتنيات للحفاظ عليها بدلا من التلف والضياع”.
الباشا وشربت زبيب زبالة !!
ويسترسل بائع الكتب رياض فدعم في حديث الذكريات ليروي لنا حكايات طريفة عن لسان وكيل راديوات (ايكو) الانكليزية الصنع (ابراهيم ابو مهند) والذي استأجره منه ليتخذه مكانا لمزاولة مهنته في بيع وشراء الكتب، ومفادها ان رئيس الوزراء الاسبق نوري السعيد كان يمر بين فترة واخرى من امام محله باتجاه زبالة ابو الشربت القريب منه لتناول شربت الزبيب الذي اشتهر به فكان يقول لابي مهند وكيل شركة الراديوات الانكليزية “إنّ هذه الراديوات التي تبيعها تسبّب في اثارة مشاكل للحكومة لان استماع الناس الى بعض برامجها سيحرّضهم على الانتفاضة علينا, فيجيبه ابو مهند مازحا: “باشا لعد شلون نعيش”،  فتتعالى ضحكات نوري السعيد فيمضي في طريقه لاكمال جولته لتناول شربته المفضل من الحاج زبالة .
ويستدرك رياض فدعم قائلا: 
“ انني خلال عملي في المؤسسة العامة للسكك الحديد قبل اكثر من ثلاثين عاما سنحت لي الفرصة يوم كنت اعمل موظفا في قسم الارشيف والاضابير بالاطلاع على الاضبارة الشخصية لنجل رئيس الوزراء نوري السعيد (صباح) الذي كان وقتها مديرا عاما للسكك الحديد في العهد الملكي, كما أود ان اذكر هنا بأن اغلب المقتنيات الخاصة بمطعم السكك وخاصة الاواني الخزفية الموشاة بصور الملك فيصل الثاني وشعار المملكة العراقية والتي كما يقول لا ادريما آل اليه مصيرها الان.
 
 ضابط في كتيبة الخيالة
 الملكية يروي حكايته ..
ويواصل اقبال حديث الذكريات ليقول :”في احد الايام مر بي شخص ثمانيني فسألني عن بعض الصور الملكية التي اعرضها في واجهة المحل بعد ان اطال الوقوف امامها وقد اغرورقت عيناه بالدموع, مالفت انتباهي فسارعت لأسأله عن علاقته بها, فإذا به يخبرني انه كان احد ضباط كتيبة الخيالة الملكية, وقد كان شاهد عيان للاحداث التي جرت صبيحة ثورة 14 تموز عام 1958, اذ كان من المقرر سفر الملك فيصل الثاني صبيحة هذا اليوم الى تركيا تلبية لدعوة رسمية منها،وانتظرنا طويلا ولكن لم يأتِ مما اثار الريبة والشك في نفوسنا بأنّ هناك خطبا ما او حادثا قد حصل, وفعلا حاولت العودة الى قصر الزهور لمعرفة حقيقة مايجري فلاحظت ان الاوضاع غير اعتيادية وشاهدت وجود قوات عسكرية من الجيش بكامل تجهيزاتها واسلحتها القتالية المختلفة, وصادف ان لمحني احد اصدقائي من الضباط المشاركين بالثورة فاخبرني بحقيقة مايجري وان هناك ثورة على الحكم الملكي، وعليك ان تتوارى عن الانظار حفاظا على سلامتك فعدت الى بيتي والالم والحزن يعصران قلبي، وبعد يومين صدر امر بإحالتي مع ضباط اخرين الى التقاعد, وقال اقبال ان هذا الرجل قد اخبره بأنه مايزال يحتفظ ببعض الاوراق الخاصة والوثائق المهمة وبخط الملك نفسه, فطلبت منه راجيا بأن يطلعني عليها لأصورها الا انه غادرني ولم يعد ثانية منذ ذلك الحين وحتى الان ومن دون أن يخبرني عن اسمه”. أحد مرافقي الزعيم يرفض الافصاح عن نفسه : ويقول رياض فدعم من قبيل المصادفة ان التقي ايضا باحد مرافقي الزعيم عبد الكريم قاسم (رحمه الله) وكان ضابطا برتبة نقيب، لايحضرني اسمه الان، وقد اخبرني بأنه كان مرافقا للزعيم عبد الكريم قاسم وله العديد من الصور معه والتي علق بعضها على جدران المقهى المجاورة لمحل رياض والتي كان يجلس فيها ليحتسي الشاي بين فترة واخرى، وانه قد تمت احالته الى التقاعد بعد الانقلاب عام 1963 الا انه انقطع عن التردد اليها منذ زمن, كما انه يرفض اجراء اية لقاءات صحفية وتلفزيونية معه .