شيخ الشباب.. الحنين للوجود
د. ياسر عبد الحسين
لمدة ليست بالقصيرة.. كان وما زال ترتيب مكتبتي يعبر عن شخصيتي، كانت الكتب التي أكثر من مراجعتها، والإطلاع عليها هي الأقرب للرفوف القريبة لمنضدة الكتابة وأوراقي المبعثرة، بينما الأقل أهمية تبتعد في الرفوف العليا، حيث أراجعها في حالات نادرة، تلك الكتب التي تحتاج إلى سلم للصعود من أجل أن ألمسها وأقلب أوراقها، لمدة ليست بالقصيرة كانت الكتب الإسلامية والفقهية هي الأقرب.. وتحديدا الكتب والمراجع الأًصولية التي تدور حول النص المقدس وأهميته من مختلف المذاهب الإسلامية. ولكن بمرور الأيام أصبحت هذه الكتب تبتعد قليلا.. قليلا نحو الأعلى وصولا إلى الرفوف التي تجاور السقف.. كان تدور في بالي أسئلة عدة.. وفي طي مراجعتي المستمرة التي اعشقها بحثا عن ذاتي: لماذا بدأت الكتب التي كانت تجاورني لسنوات طويلة تبتعد، ولماذا اختفت كتبي الدينية الخاصة، التي كانت تحت الوسادة خوفا من اكتشاف والدتي ماذا أقرا من كتب ممنوعة آنذاك.
ولعل ردة الفعل التي صاحبتني على سلوك أحزاب الإسلام السياسي هي السبب، وأنا أشاهد البون الشاسع بين النظرية والتطبيق في أتون المعبد، وأن الشعارات التي كنا ننظر لها بقدسية وحماس بدأ توهجها بالانطفاء، بسب غياب عنصر التحدي الذي كان موجودا أيام النظام السابق، ولعل أيضا كتب العلوم السياسية التي تشجع على التفكير المادي هي السبب، والبحث عن التفكير الواقعي... وغير هذا وذاك.. لا بد للروح من استراحة.. ولا بد للقلب من محطة حب وامتزاج العشق بطريقة تحترم العقل وذاته.
في خضم التحولات الحادة التي ترافقني وترافق الكثير من أقراني، الذين يعانون المشكلة ذاتها، بدأت بالإطلاع على فكر إنساني إسلامي تنويري، يحترم كرامة الإنسان ويقدم لهويته وروحه بلسما آخر مختلفا غير غارق بالتفاصيل، التي تكمن فيها الشياطين، وبدأت تلك الرحلة القلقة من كتاب استاذنا الدكتور عبد الجبار الرفاعي (الظمأ الأنطولوجي)، ليرويني من ظمأ عانت منه روحي الطامحة للبحث عن السكينة الخاصة، وهو بتعبيره (الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه)، وهكذا بدأت رحلتي المميزة إلى عالم آخر من فهم مختلف للدين والنص والوحي وعلم الكلام، وبدأت بنهم أقرأ لهذا الكاتب الروحي الأخلاقي العقلاني المميز قبل التعرف على شخصيته وميزته، وما أن بدأت حياتي الشخصية بالاختبار، كان الرفاعي الأقرب فهما وتصوفا وجمالا في السؤال عني وعمَّا يشغلني، ليكون مصداقا لما يكتبه من نص وما يسلكه في تعامله الأخلاقي الرفيع مع أبنائه ومحبيه وطلبته.
مشكلة الجيل هو ذلك الخاطب الفاقد لروح عصره، كما يقول الأمير علي (لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، عالج العلامة الرفاعي هذه المسألة ليقدم رؤية مغايرة تقترب من هذا الجيل الحالي وهمه، لهذا فهو حقا شيخ الشباب، حينما يرى الآخرون هذا الجيل الفاقد لهمته. يرى الرفاعي أن عقل الشباب اليوم أنضج ووعيهم للحياة أعمق من سابقيه، ويقارن بين عالمين أحدهما مركب والآخر بسيط، بين عالم متنوع وآخر أُحادي، عالم تتفاعل فيه الهويات والثقافات، وعالم داخل الحدود وآخر رحب تتسع له الآفاق، بل يعترف الرفاعي في مقالة أعدُّها أكثر من رائعة تحت عنوان: (ثناء على الجيل الجديد) بقوله: (لفرط رومانسيتِنا ضعنا وضيّعنا الأوطان، ولفرط واقعيتهم ما زالوا يفتشون بعناد عن دروب للخلاص لا تكرّر متاهاتنا)، هذا الاعتراف غير المجامل يقرب المسافات البعيدة بين الخطاب المتعالي بين الدين والمجتمع، ليدخل ثنايا عالم الشباب الباحث عن البوصلة الأقرب لفهم هويته وروحه.
الرفاعي أراد أن يحقق لذاته فهما مغايرا، ويقدم تجربة جديدة في المسرح الاجتماعي بعيدا عن الصنميات، ويدعو هذا الجيل لمواجهة الأصنام البشرية، ويرى في هذا الجيل قدرة بما يمتلكه من نزعة فردية في شعوره عصيا على الاستعباد، كما يقول شاعرنا الكبير أبو فرات الجواهري:
سينهض من صميم اليأس جيلٌ مريـد البـأسِ جبـارٌ، عنيد
يقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد.
حتى هذا التمرد الشبابي الذي يريده الرفاعي أن يكون منتظما قائما على بارادايم معرفي وتواصل بناء، وهو بذلك يواجه مشكلة العصر في عالم البناء التربوي والملازم لحالة فشل لغة الآباء في التواصل مع الأبناء، ولأن مرحلة البناء مستمرة في حياة الانسان رغم خصوصية مرحلة الشباب كما يقول أرسطو (تصنع العادات الجيدة المكتسبة في سن الشباب الفارق كله).
عبد الجبار الرفاعي يريد ان يجعل الآباء، سواء كانوا آباء الدين أو السياسة أو المجتمع، أن يتخلصوا من نظرتهم الدونية تجاه الشباب، لأن عنصر التغيير هو حاسم اجتماعيا في هذه المسألة، وخصوصا اذا ما اقترن هذا التغيير بالأجيال المجتمعية الراهنة، وفي هذا السياق يقول ألفن توفلر Alvin Toffler في كتابه ( الثروة واقتصاد المعرفة) بأنه اذا كان الجيل الناشئ يهتدي برسالة التغيير، فإن التحولات القادمة أخطر ما تكون على المؤسسات القائمة حاليا، لأنها ليست في حد ذاتها لا يمنية أو يسارية، ديمقراطية أو مستبدة، فرسالتها الضمنية العليا هي أن مجتمعاتنا كافة، وكل أساليب حياتنا، هي مؤقتة بطبيعتها، وكما يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس: " لا يمكن للمرء أن يستحمّ في النهر نفسه مرتين".
جيل التطبيقات والتواصل الاجتماعي هو جيل أشد حضورا من جيل الكاسيت بكل ملامحه وتضاريسه، وبالتالي فإن صياغة العلاقات الاجتماعية وإعادة تشكيلها في سياق حياة ورغباتِ وأحلامِ جديدة، يجب على المجتمع احترامها، بل الاعتراف بها. الأجمل أن نقرأ نصوصا يطابق صاحبه بها سلوكا، لا كما جاء في حالة جان جاك روسو، الذي ألف كتابا في التربية وله نظريته الخاصة في هذا المجال، لكنه يقول في كتابه (الاعترافات) إنه أنجب خمسة أطفال وقام بإيداعهم في الملجأ وفشل في تربيتهم.
النظرية غير التطبيق، وهذه فرصة للإشارة إلى أن مدرسة الرفاعي أنتجت ولده الدكتور محمد حسين الرفاعي منظراً ومفكراً شاباً مميزاً، أصدر آخر أربعة من الكتب مميزة جدا، في موضوعات خطيرة مثل أزمة الهوية والأخلاق، والمواطنة والديمقراطية، وعن المنهج والبحث والعلمي، ولولا أن مطربة الحي لا تطرب لطرز اسم نجل الرفاعي في جامعاتنا بشكل يليق بفكره وأناقة طرحه.
يبقى للشباب دور رائد في صناعة هذا العالم، ويدعو الرفاعي إلى الاهتمام ببنية النظام التعليمي، الذي أنتج وعيَ الأباء وما زال يعيد إنتاجَ وعي الأبناء على حد تعبيره، فالجيل الذي وضعت نظريته في إطار علم الاجتماع السياسي، وضع أسسها العالم كارل مانهايم، الذي يرى أن الأشخاص بشكل عام يتأثرون بالبيئة الاجتماعية التاريخية التي تسيطر على شبابهم وخصوصا في قمة نشاطهم، وبمرور الوقت يكون على أساس تلك التجربة الاجتماعية تتولد أجيال يكون لها عوامل للتغيير، رغم أن الثقافة السائدة تميل إلى حالة الحذر من الشباب، بسب صفة الاندفاع، ولهذا ترى على سبيل المثال ينقل أن رئيس وزراء الهند نهرو عندما وجد جمال عبد الناصر في أحد الاجتماعات يعلو صوته قال له: "تحتاج كثيرا إلى الشعر الأبيض"، أي أنه يحتاج إلى العقلانية والخبرة والكثير من النضج السياسي، وبغض النظر عن رؤية الحكمة أو الاندفاع والتهور في السياسة التي يقوم بها الشباب فإنه عموما بعد أن هرم "الحرس القديم"، نحتاج إلى التصالح الحقيقي مع هذا الجيل، وهذا ما يدعو إليه الرفاعي الذي يفكر بعقلية الشباب المتزن، وكما يقول فرانسيس بيكون "تكمن الشيخوخة في الروح أكثر ما تكمن في الجسد". العمر البايولوجي لم يكن بحد ذاته عائقا في الخير أو الشر، ماذا يعني أن يكتب محمد باقر الصدر أشهر كتبه الفلسفية وعمره 26 عاما وسط أساطين الفقهاء.
إن منح الثقة والاعتراف مدخل مهم لدعم هذا الجيل في مهمته التاريخية، التي يجب أن تكون مدعومة بالثقة من قبل الآباء والاعتراف بالأخطاء ومنح مساحة لتقديم هذا الرونق بروح شبابية عصرية، تواجه زخم التحديات بثقة وثبات.
ولأهمية ما قدمه الرفاعي من إطار تربوي وأخلاقي ومعرفي للجيل الحالي، سررت وأنا أكتب هذه الكلمات سوف يخرج للنور قريبا كتابه، الذي يرى فيه ضوء الحاضر والمستقبل في عيون الجيل الجديد كما يقول، عن منشورات الرافدين ببيروت وتكوين في الكويت، فألف تحية للعلامة الرفاعي في ميلاده السبعين الممتدة بالعطاء والنتاج الزاخر، ولقلمه المملوء إيمانا ورحمة وحبًّا ومعرفة آلاف التحايا. وأقول له كما يقول العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله في ديوانه (أشعار في السبعين):
أستلهم الذكرى فيلهب خاطري
فكر يشق إلى السماء سبيلا
والفكر في لغة السماء عقيدة
طافت لتخلق من هداها الجيلا