الإصلاح والثورة

فلكلور 2024/08/20
...

 طالب سعدون                                                    

نقع في خطأ كبيرعندما نصف وقفة الحسين ( ع ) في كربلاء بأنها مجرد ثورة ، بتصور واهم إننا بهذا الوصف نكون قد أعطينا  الإمام الحسين حقه باعتبار أن الثورة عند السياسيين والأكاديميين هي ( أعلى مراحل التغيير ).

إن الوصف المناسب لوقفة  الإمام الحسين يجب أن لا نبحث عنه في المصادر و( القواميس ) السياسية والأكاديمية والمدرسية ، بل يجب أن نأخذه  من الإمام  ( ع ) نفسه عندما قال قولته الشهيرة ( لم أخرج أشِراً ولا بطراً ، بل لطلب الإصلاح في أمة جدي)  ..

وبهذا الهدف العالي يكون الإصلاح أكبر من الثورة لأنه امتداد طبيعي لرسالة النبي الكريم محمد ( ص ) ، وتحقيق التواصل معها ، دون انقطاع إلى أن تقوم الساعة .

 ومن هنا فإن لوقفة الحسين ( ع ) وصفاً خاصاً بها لا تجده في  مصطلح الثورة  السياسي أو الأكاديمي المحدد بهدف خاص ( بالثورة والثوار )  ، ولا في غيرها من أدوات التغيير المعروفة  سياسياً على مدى التاريخ ، والتي من أهدافها انتقال السلطة إلى الثوار وهذا ما يحصل في كل  الثورات .. لكن عند الحسين هي رسالة .

فاذا كانت الثورة في أحد معانيها  السياسية ، رفضاً لواقع سيء  ، فليس بالضرورة أن يتحقق الأفضل ،  بالثورة ، فقد حصل  في بعض تجارب  الثورات أن تراجعت الحال  نحو الأسوأ  بعدها ، أو قد يكون المتحقق لا يساوي  قيمة التضحيات والمعاناة ، أو لا يرتقي إلى مستوى الآمال  الكبيرة  المعقودة على الثورة ، أو قد تنحرف  الثورة عن  مسارها ، حتى إن كانت  بسبب ظروف صعبة خارج إرادتها .. 

 - أما وقفة الإمام  الحسين فكانت خارج هذه القياسات ، ولها قياسها الخاص ، الذي تستمده من رسالة جده الرسول ( ص ) ..وخلاصتها حديثه ( ص ) ( حسين مني وأنا من حسين ) فحسين من الرسول معروف وهو امتداد في النسب أما كيف يكون الجد من الحفيد فذلك تمثله وقفته  المشهودة في تحقيق التواصل مع رسالة جده وضمان استمرارها دون انقطاع ، واستمرار اسمه ( ص ) يتردد مع رسالة حفيده  إلى أن تقوم الساعة..

 وبهذا الهدف تكون وقفة  الإمام الحسين خالدة في مضمونها  الرسالي  ومستمرة في عطائها  الإنساني خارج قياس  الزمان والمكان المتعارف عليه في الثورات الاعتيادية ، وحية في روحها وتزداد قوة سنة بعد أخرى ، وبذلك فهي رسالة أممية  في تجاوزها  الحدود المكانية وفي  إشعاع مبادئها وإحياء ذكراها ليس تعاطفاً إنسانياً فقط وإنما في استلهام مضامينها والسير على هداها ..

والأربعينية التي نعيش أيامها ونستلهم دروسها  أصبحت رمزاً عالمياً لوقفة عظيمة  لأبي الأحرار ، ولم تعد ظاهرة شعبية عراقية  فحسب ، فهناك مشاركات  كبيرة ، من خارج العراق تزداد هي الأخرى ، سنة بعد أخرى أيضاً تصل إلى أعداد لا يمكن حصرها  من المشاركين وفي طليعتهم الشباب الذين تطوع قسم كبير منهم للخدمات وجمع النفايات والأوساخ على طول الطرق التي يمر بها زوّار الإمام ، وانتشار وسائل  الضيافة  بما فيها فتح الناس بيوتهم لاستقبال الزوار على الطرق المؤدية إلى مرقد الإمام ، وهي  بمجموعها تشكل  مؤسسات خيرية شعبية تطوعية  ، تقدم الخدمة والراحة والمنام والسكن ، لمدة تصل إلى نحو شهر تقريباً وهي ظاهرة يستحق التوقف عندها .

أعداد  الزائرين مشياً على الأقدام بالملايين تعادل نفوس دول وهي رمز الوحدة والتعاون  والتكافل الاجتماعي لإنجاح هذه الظاهرة وإظهارها بالمظهر الذي يليق بالإسلام عامة والعراقيين خاصة وتعكس تمسُّكهم بمنهج الحسين ورسالته .

 لكل عمل صغر، أم كبر ، عائد وجدوى وهدف ، وظاهرة السيرعلى الأقدام إلى كربلاء ، ينبغي أن يكون عائدها ، بما يوازي قيمة المُحتفى به ، وهو الوفاء لمبادئ  الإمام الحسين ، والسير على هديها .

 ولنا في أصحاب الحسين درس آخر .. لا تنطبق عليهم الحسابات التقليدية في  موازين القوة من حيث العدة والعدد بين الطرفين.. ( فالتفاوت بينهما جعل الإمام  الحسين ليس اسما ، وإنما هو عنوان ورمز لكل موقف يجسِّد معنى البطولة والفداء والتضحية بالغالي والنفيس من أجل العقيدة والمبادئ ، ( مهما كان جبروت الطغاة وتعسُّف قوى الظلام والضلال ).

فمبادئ الحسين تجدها اليوم بعد مضي أكثر من 1400عام عند أي رافض في العالم للظلم ، أو ثائر في أقصى المعمورة  ضد الفساد والاستبداد والقهر والتعسف والجور والتميز والاستئثار بالمال العام والسلطة لأغراض شخصية .

والسير على هدى هذه المبادئ يعني الاقتفاء بروح مبادئ الإسلام ،  ورسالته الأممية التي  جاء بها الرسول  محمد ( ص ) وحافظ عليها  الإمام الحسين  بهذه الوقفة العالية ،  وجعل من تلك المبادئ السامية  طريقاً يمكن أن تستفيد منه الشعوب في تحقيق سيادتها واستقلالها  ، ورفض الظلم والعبودية ، ويكون قدوة للتخلص من الاستعمار ، عندما يفضل الموت الكريم على الحياة الذليلة  ، كما يقول موريس دو كابري ...

وتلك هي مبادئ الإسلام  وجوهر رسالته السامية التي استشهد من أجلها  الإمام الحسين(ع)  وصحبه الكرام  ...  وهذا هو الإصلاح في وقفته.. دروس  كثيرة في  مدرسة الإصلاح الحسينية  ينبغي السير على هداها  وفي مقدمتها  أن (التضحية ، والالتزام بالمبادئ هما اللذان يمنحان المشروعية والشرعية للحاكم ) وثانيها .. ( أن القرب من مصدر الإشعاع ، وهو جده رسول الله  (ص) فرض عليه مسؤولية التصدي للانحراف ) ، وليس الاستئثار بمنصب أو مغنم .. أما الثالث فيتعلق بأصحاب الحسين ع  .. صحيح أن أصحابه قِلَّة من حيث العدد لكنهم  كانوا مثالاً  في قوة المبادئ والتمسُّك بها  مهما غلت التضحيات وفي مقدمتها التضحية بالنفس ، بحيث  تركوا المال والجاه والمنصب الذي يمكن أن يوفره لهم الطرف الآخر ، وأقبلوا على الحسين (ع) ، رغم معرفتهم  بأن مصيرهم سيكون الشهادة والموت ، وكانت أمنية الأماني بالنسبة لهم أن يقتلوا مرة بعد أخرى بين يديه ، بينما قال من جنَّده  الطرف الآخر لقتل الحسين وإراقة الدماء (كم تدفع لنا من المال)  على حد قول العالم والأديب جورج جرداق  وشتّان ما بين الموقفين.