التراث الحسيني

ريبورتاج 2024/08/20
...

 عماد العبيدي

لا يمكن أن يختزل طريق الحسين "ع" بموسم عاشوراء والطف وما جرى فيه أو في أربعينية الزيارة المليونيَّة الكبيرة على ما في ذلك من أمور إعجازية في شتى الصور ((أنهار الدموع والبكاء والكرم العجيب المذهل والتحمل والسير مئات الكيلومترات باتجاه كربلاء من كل الأصقاع من داخل العراق وخارجه  وبحر الأحزان واللوعة وجمال الكلمات التي تُنشد والتوحد في المشاعر واللهفة ونكران الذات والتسابق في العطاء والسخاء)) ما شكل ملحمة جديدة تضاف إلى ملحمة الطف.

نعم الحسين يوحدنا ويجمعنا ويعيد الدين طريّاً  كأنه الأمس، نعم نجحت دماء الحسين وأهل بيته وأصحابه في إصلاح أمة محمد (ص)  ولم تذهب هذه الدماء سدى، بل إنها شكلت منعطفاً في التاريخ الإسلامي وصداها ما زال مدوِّياً في ضمير المسلمين والإنسانية حتى استحال مدرسة تعيد بناء ما انهدم وصرخة في وجه الظلم وقل في هذه الملحمة ما شئت ولكنك ستبقى مقصراً غير مستوعب بالضبط كل ما جرى إذ تبقى دروسها تترى. "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"، أجل نحزن وننتفض لكل مظلوم على مرِّ الدهور "وإن استنصروكم فعليكم النصرُ"، إذن كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء لا نفهم منها أن الدهر كله بكاء وحزن فقط بل إن الدهر كله يخلد صرخة وثورة الحسين، فنحن لا نريد أن نخلِّد سردية البكاء والألم على حساب حقيقة الثورة الحسينية  وكأننا استمرأنا العذاب والألم فقط وإلا ما معنى"هيهات منا الذلَّة"، هل توسَّل أهل بيت الحسين وعيالاته وطلبوا الرحمة والسماح أم ضربوا أروع الأمثلة في التصبُّر والتجلُّد من أجل ماذا؟ 

هذا التراث الحسيني أمامك قيل فيه الكثير  الكثير ولكن هل ورد فيه ضعف أو استرحام؟! إنهم قوم يدركون ما يفعلون ويقدرون عالياً المسؤولية التي وضعهم فيها ربُّ العزة .

نعود مرة أخرى للتراث الحسيني لنجد أنه قد حوى الكثير من الصور الرائعة التي تناولت كل شيء (الأخوة،الإيمان، العائلة، الشجاعة، الصبر، نكران الذات، الوفاء، النصح، الذكاء، الطاعة، التقوى،.....) وكل صورة من ذلك لها قصة تصلح أن تكون منهاجاً اجتماعياً وحياتياً للإنسانية حرص الحسين وعيالاته على أن يقدموا مصاديق لها وقد نجحوا في ذلك وكانوا محل فخر للأمة، إذ رسموا وكتبوا لها تاريخاً مجيداً.   إذن الحسين وأهله وأصحابه سلام الله عليهم أدّوا ما عليهم وزيادة، ويبقى السؤال كيف تفاعلنا نحن مع هذه التضحية ؟ هل وقفنا عندها كما يجب ؟ (لعمركَ لقد تركت الرجالَ في مأزقٍ وخمِ / فمثلك لو قيس الرجالُ بهِ لكان خيراً لهم لوْذٌ إلى عدمِ).

إنَّ التراث الحسيني يشهد على عظيم التفاعل مع هذه الثورة فهو حافلٌ بالكثير ولم يقصِّر المحبُّون والموالون لأبي عبد الله في استلهام المعاني السامية والقيم العظيمة والدروس والمواعظ والعبر ونجح هذا التراث في أنْ يخلِّد هذه التضحيات ويغرسها عميقاً في  النفوس  والأدلَّة على ذلك لم تعد خافية ولا يتسع المجال لذكرها تفصيلاً ولكن الجمال تراكمَ فيها جبالاً نرتقي قممها دوماً ونرى المشهد بصورة أوضح ، ومن قمم جبال هذا التراث مثلاً وليس إجمالاً قصيدة(الله يا حامي الشريعة) شاعراً ومنشداً وصدى وتفاعلاً وخلوداً، وكذلك القمة الثانية (يحسين بضمايرنا)  هاتان القمتان تستحضران أمرين، الأولى تعزّي وتستدعي الإمام الحجة سلام الله عليه وتستعرض ما أصاب الدين من انحرافات تطلب حامياً لأصوله وفروعه  مصورة هول الفجيعة مضافاً إلى ذلك قصة هذه القصيدة لدى السيد حيدر الحلي مؤلفها، فالقصة وحدها جديرة بالوقوف عندها  والتأمل في أبعادها.  أما القمة الثانية (يحسين بضمايرنا)  فهي تلخص كل شيء وتسمو على غيرها من القصائد باعتبار المفاهيم الجديدة المعاصرة الداخلة فيها والتي حددت وجسدت الموقف المطلوب من المؤمنين بلغة أثارت رعب الطاغية ووقفت على صميم  الهدف وعمق الالتزام بالنهج الحسيني ورسَّخته مبدأ يبين معنى الحرية وثمنها، لسنا في معرض تحليل تفصيلي لكلمات القصيدة وإنما نحن هنا بصدد استلهام الجو العام واللغة التي تريد أن تقدم معنى متقدماً على الزمان متصاعداً مع كمية الظلم دالّاً على المعرفة المتنورة بالتضحية الحسينية فاتحة آفاقاً جديدة في كل عصر شاملة معاني أكثر من غيرها من القصائد حيث كانت بقية القصائد تسلط الضوء على مشهد محدد (حرق الخيم، التمثيل بالأجساد، انعدام الرحمة، تضحية الأخ، تضحية الابن ، الصبر على الألم) وهكذا فكل قصيدة تأخذ مشهداً محدداً تدور في فلكه وتغوص عميقاً في إبرازه، وهذا لا يبخسها (القصائد) إبداعها ونجاحها في تجسيد ما أرادت وصفه لكننا في قصيدتنا القمة وقفنا على المنظر كله وعرفنا المغزى الذي سعى أبو عبد الله إلى أنْ يغرزه في أعماقنا ، وإلا فالكل يموت والكثير من الناس يُظلم  ويفقد الأحبة خاصة في عراقنا وما شهده من حروب وظلم ودكتاتورية وتعذيب وقتل وفقر انفرد بأغلب ممارسات ذلك النظام المقبور وتوزع الباقي بين جميع من تولى حكم شيعة أمير المؤمنين خاصة والناس عامة.. من بني أمية إلى بني العباس وحتى اليوم، إذن الحسين ثورة ضد كل ظلم مهما كانت صوره وأزمانه، هذه ثقافة تترسخ في اللاوعي وفي العقل الجمعي وترسم صورة مركبة تخاطب عقلاً متنوراً محرضة على استرخاص النفس في سبيل الأمة والمجموع مقدمة التضحية على الأنانية والمصلحة الشخصية عندما يتطلب الأمر ذلك، والمثير والمدهش أنَّ هذه الملحمة لم تتكرر مع تكرار الظلم والانحرافات نعم كانت تضحيات بقية الأئمة من ولد الحسين "ع" استمراراً لها ولكن (سفينة الحسين أسرع) وفاجعة الحسين أكبر وخلودها أعظم وكأني بها مستمرة في مناهضة ظلم الطغاة والانتصار للمظلومين (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء)، نعم (يحسين بضمايرنا) نعم (أبد والله ما ننسى حسيناه). كما نجلُّ هذا التراث الذي حفظ الطف وكربلاء وفاءً وصدقاً وعمقاً (رحم الله من أحيا أمرنا)  ودعا إلى التخلُّق بأخلاق أهل البيت "ع" الذين هم القرآن الناطق  والالتزام بوصية الرسول (ص) (تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي).

فرحم الله من كتب وأنشد وخدم وزار وبكى وأبكى ونصر الحسين وفكره، وسلام على المؤمنين والمسلمين وسلام على زائري أبي عبد الله  وعلى من أحيا في نفوسنا جذوة الثورة الحسينية ولا جعل الله ذلك آخر العهد بيننا وبينهم.