عواء.. قصيدة الغضب والعبث
جيف والنفيلدت
ترجمة: شيماء ميران
بالرغم من مرور ستين عاما على انتشارها، لا يزال صدى قصيدة "العواء" للشاعر الأمريكي إروين ألن جينسبرج 3"يونيو/ حزيران 1926 - 5 أبريل/ نيسان 1997" يتردد عاليا. لم تغير القصيدة مشهد الشعر في فترة منتصف القرن العشرين فقط، بل كانت دعوة واضحة لثقافة التحرر ورفع الوعي للأجيال المقبلة. لم يكن نشرها في مجموعة "Howl and Other Poems"، وهو جزء من "سلسلة شعراء الجيب" التي أصدرتها مكتبة أضواء المدينة لمؤسسها "لورانس فيرلينجيتي" حدث تاريخي يوازي أول أداء علني للقصيدة عام 1955 أو 1957، أول دعوة المحاكمة، التي سعى لها المدعي العام لخليج سان فرانسيسكو الذي غضب من القصيدة، لاستخدامها مفردات غير مشروعة واللغة المصورة والعبارات النابية، ما أدى إلى حظر توزيعها باعتبارها فاحشة..
لقد وضعت هذه القصيدة، حين قُرأت في المعرض السادس في سان فرانسيسكو عام 1955، حركة "بيّت" على الخارطة الأدبية إلى الأبد. كان "كينيث ريكسروث" ضيفاً تلك الليلة إلى جانب "فيليب والين" و"غاري سنايدر" و"مايكل مكلور" وآخرين ألقوا قصائدهم، لكن "غينسبرغ" أثار ضجة كبيرة، حتى أن الشاعر "جاك كيرواك" هتف بصوت عال وهو يوزع أباريق النبيذ بين الحضور، في اليوم التالي أرسل "فيرلينجيتي" برقية إلى "غينسبرغ" يطلب منه نسخة من القصيدة.
في مطلع عام 1957، تمت مصادرة 520 نسخة من مجموعة "Howl and Other Poems" كانت ذاته متجهة الى لندن، وفي منتصف العام ذاته، اُلقي القبض على أحد موظفي المكتبة لبيعه الكتاب، وفي آب من ذلك العام قام مساعد المدعي العام لمنطقة الخليج "رالف ماكينتوش" بمحاكمة "فيرلينجيتي" بتهمة توزيع مواد فاحشة. وبعد سماع مجموعة باحثين عن القيمة الأدبية لرواية "هاول" رفض القاضي "كلايون دبليو" القضية، وأن قصيدة "العواء" تخلو من الأهمية الاجتماعية، ولم يكن لكاتبها النية في إفساد قرائه من خلال نشر الأفكار الفاسقة والرغبات الشهوانية.
يعلن "غينسبرغ" في القصيدة عن عمق ما رآه من فحش المجتمع الأميركي الخالي من الروح والمهووس بالمال، ويحيي ذكرى الذين عانوا منه واعترضوا عليه. مثلما حدث خلال المراحل الأخيرة من مطاردة السيناتور "جوزيف مكارثي" للسحر الشيوعي في ذروة شهرته.
كان افتتان "غينسبرغ" البوهيمي صرخة صادمة للمعارضة الخارجية من الاحتفال، بما لم يكن الافضل من الازدهار الجيد لأميركا بعد الحرب العالمية الثانية. كانت القصيدة نداءً من أجل التسامح في عصر التعصب الواضح، اضافة إلى كونها إعلانا مباشرا لـ"غينسبرغ" واحتفالا بتوجهاته الجنسية.
تعد قصيدة "العواء" بذيئة وعميقة، متناقضة وخاطئة، مليئة بالجنس والروحانية، بالرعب والفكاهة، باليأس والأمل. كما هو حال الكثير من أدب "حركة بيّت"، إذ إنها ترتكز على السيرة الذاتية وتؤرخ تجارب "غينسبرغ" ورفاقه، خاصة الجزء الأول منها، في محاولة لإلقاء الضوء على التجربة العالمية. كانت القصيدة مستوحاة ومستلهمة من الفهرسة المطولة لـ "والت ويتمان"، اعتمدها "غينسبرغ" كونها تستخدم (من) بكثرة وقدمت عبارات ثانوية، وإيقاعها المتزامن مع موسيقى الجاز بيبوب للعازف "ليستير يونغ" و"تشارلي باركر". واسماه "غينسبرغ" النفس الشعري، إذ تُصور كل سطر من القصيدة على أنها وحدة نفس واحدة.
وربما لخص "تشاتش هورن" بنية القصيدة الثلاثية بإيجاز وأوضح أن "غينسبرغ" أشار إلى رمز جمع الأغراض الشريرة، جشع الشركات والنزعة العسكرية التوسعية والحكومة القمعية وغيرها، مستوحاة من رؤيته للبيوت، إذ رأى أن فندق السير "فرانسيس دريك" ومبنى الفنون الطبية في سان فرانسيسكو مُدمجان في مبنى متكامل، كصورة الإله القديم مولوج.
ومن الجيد أن نعرف أن "كارل سولومون" الذي اُهديت له القصيدة، كان مريضا في معهد كولومبيا للطب النفسي، حيث تعرف عليه هناك إذ كان "غينسبرغ" ذاته نزيلا فيه أيضا. إن لم تستمع لقصيدة "العواء" مسبقا، فخذ بنصيحة "ويليام كارلوس ويليامز" في مقدمة مجموعته: "حافظنَّ على أطراف ثوبكنّ أيتها السيدات، فنحن نمر خلال الجحيم".
عن موقع Britannica
قصيدة "العُواء" ترجمة
الشاعر سركون بولص
رأيتُ أفضلَ العقولِ في جيلي وقد دمرها الجنونُ، يتضوّرون
عراةَ ومُهَسْترين يجرجرونَ أنفسهم عبر شوارع زنجيةٍ في الفجر باحثينَ عن إبرةِ مخدّرِ ساخطة
هَبائيون* برؤوس ملائكةٍ؛ يتحرقون للوصال السماويّ العتيق، بالدينمو النجوميّ في مكننة الليل،
الذين بفقْرٍ وفي خرقٍ وبعيون مجوّفةٍ ومسطولينّ جلسوا يدخنون في الظلام العجائبي لشققٍ بلا ماء حارّ يطفو في أعلى المدن يتأملون في الجاز مَنْ عرّوا للسماء
أدمغتهم تحت سكة الـEL * ورؤوا ملائكة الإسلام المنيرة تترنح على سقوف الأحياء الفقيرة.
مَنْ مرّوا في الجامعات بعيونٍ ساطعةٍ وباردةٍ مهلوسينَ
لأركانساس ومأساة نور – بليك بين أساتذة الحرب،
مَنْ طُردوا من الأكاديميات لجنونهم ولنشرهم أناشيدَ فاحشةً على نوافذ الجمجمة
مَنْ انزووا بملابسَ داخلية في غرف بلا حلاقةٍ، حارقين أموالهم في سلال مهملاتٍ ومن أصغوا إلى الرعب عبر الجدار،
مَنْ قُبضَ عليهم في لحاهم العانية عائدينَ عبر لاريدور بحزامٍ من الماريوانا إلى نيويورك،
مَنْ أكلوا نارا في فنادق الحثالة أو شربوا التربنتين في زقاق الجنّة، في الموت، أو مَطْهرو صدورهم ليلةً بعد ليلة،
بأحلامٍ، بمخدراتٍ، بكوابيس يقظةٍ، كحولٍ وعضو ذكريّ- وخصيً بلا نهاية،
شوارعُ عمياءُ لا تَضاهى من سحابٍ يرتعد وبرقٍ في البصيرةِ يثبُ نحو قطبي كندا وباترسون، منيرا عالم الزمن الساكن بينهما،
صلادات بايوتية* لأروقةٍ، أسحار باحةٍ خلفيةٍ شجرةٌ خضراءُ مقبرةٌ، سكرةُ خمرٍ على سطوحِ المباني، انساطلاتٌ على الشاي، دَسْكراتٌ بفتريناتها لسياقةِ متعةٍ في أضواء المواصلات الغامزة بنيونها، شمسٌ وقمرٌ واهتزازاتٌ شجريّةٌ في أغساق شتاء بركلين، قرقعاتُ براميل الزبالة والنورُ الرحيمُ ملكُ البصيرة،
مَن ربطوا أنفسهم بالسلاسل إلى "الصّبواي"* للركوب اللانهائي من باتيري إلى برونكس المقدسة مخدّرين بالبنزين حتى صحوا على ضجيج العجلات كالحةً أدمغتهم مفرغين من البريق والأطفالِ مرتجفينَ بأفواهٍ مخلوعةٍ ومهدودين في النور الكئيب لحديقة الحيوان*،
مَنْ غرقوا طوال الليل في الأنوار الغوّاصة بمقهى بكفورد وطفوا عاليا وجلسوا طوال مساء البيرة المتخمرة في محلّ فوغازي سامعينَ فرقعة المصير على جوكبوكس* الهيدروجين،
مَنْ تحدثوا بلا توقف لسبعينَ ساعةً من منتزهٍ إلى غرفةٍ إلى بارٍ إلى مصحةِ بيليفو إلى متحفٍ إلى جسر بروكلين، طابورٌ صانعٌ من حواريِّ أفلاطون يقفزون إلى الأدراج العَتَبيّة من سلالمِ الحريقِ من أفاريز النوافذِ من بنايةِ إمبايرستيت ومن القمر،
يطقّقونَ الحنكَ يصرخون يتقيؤون ويهمسون بحقائقَ وذكرياتٍ ومُلّحٍ وركلاتٍ إلى البؤبؤ وصدماتٍ بالكهرباء في مستشفياتٍ وسجونٍ وحروب،
استبصاراتٌ بكاملها استُفرغتْ باستذكارٍ مطلقٍ لسبعة أيامٍ وليالٍ بعيونٍ مشعّة، لحماً لكنيسٍ ألقي به على الصيف،
مِن اختفوا غي نيوجرسي الزنّ – نية اللامكانية مُخلفينَ درباً من بطاقاتٍ بريدية مشبوهةٍ لقاعة أتلانتيك سيتي،
مكابدينَ عرقَ الشرقِ وهرساً، في طنجة، للعظام وصداعاتِ الصينِ المزمنة في حال انسحاب من المخدّر، في غرفةٍ كئيبة مؤثثة في نيوارك
مَن تسكّعوا دائرينَ ودائرينَ في منتصف الليل بين السكك، حائرينَ أين يذهبون، وذهبوا، دون أن يتركوا وراءهم قلوباً كسيرة
مِن أشعلوا سجائرهم في صناديقِ عربات القطارِ.. عربات القطارِ.. عرباتِ القطار.. عرباتِ القطارِ مقعرقينَ عبر الثلوج باتجاه مزارعَ موحشةٍ في جدّنا
مِن درسوا بلوتونيوس وبو ويوحنّا الصليب، تيليباثيا وكابالا جازيّةً لأن الكون في كانساس تذبذبْ عند أطراف أقدامهم بالغريزة
مَن توحدوها على الذمّةِ عبر شوارع إيداهو متقصّينَ ملائكةً هنديةً كانت ملائكةً هنديةً رائية،
مَن فكروا أنهم بالأحرى مجانينُ عندما تألقت بالتيمورُ في نشوةٍ تفوق الطبيعة،
مَن قفزوا إلى الليموزينات مع صينيٍّ في أوكلاهوما بحافزٍ من مطر منتصفِ ليلِ شتاءٍ لنور الشوارع في بلدةٍ صغيرة،
مِن تمددوا جياعا ومستوحشين عبر هيوستون بحثا عن جازٍ أو جنسٍ أو حساءٍ، وتبعوا الإسباني الألمعي ليتحاوروا بشأن أمريكا والأبدية، مهمةً ميئوساً منها، وهكذا أبحروا إلى أفريقيا،
مَن اختفوا في براكين المكسيك تاركين لا شيء سوى ظل بدلةٍ للشغيلة وحممِ الشعر ورماده مبعثرا في الموقدة شيكاغو،
من عادوا إلى الظهور في الساحل الغربي* يتحرّون الـ أف بي آي* بلحى وشورتات بعيونٍ كبيرة لمسالمين فاتنين جنسيا بجلدِهم الأسمر يوزعون منشورات لا يمكن فهمها،
من أحرقوا أذرعهم بالسجائر احتجاجا على حاجز التبغ لإدمان الرأسمالية،
من وزعوا كراساتٍ ما فوق شيوعية في ساحة الاتحاد* باكين ومتجردين من الملابس بينما صفارات إنذار لوس آلاموس تُعول لتُسكتهم، وأعولت لتسكت وول ستريت، وعبّارة جزيرة ستاين أيضا أعوّلت،
مَن خاروا وهم يبكون في ملاعب الرياضة البيضاء عراةً يرتعدون تلقاءَ التركيب الآلي لهياكلَ أخرى،
مَن عضّوا رجالَ الأمن في العُنق وزعقوا من اللّذةِ في عربات البوليس لأنهم ما من جريمةٍ اقترفوا غيرَ طبخاتهم العجيبة محنونيّتهم والانخطاف النشواني
مَن على رُكَبهم عووا في "الصبواي" وسحبوهم من السقف وهم يلوحون بأعضاء تناسليةٍ ومخطوطات
مِن دعوا أنفسهم يُلاطُ بهم من قبل راكبي دراجات بخاريةٍ ذوي قداسةٍ، وصرخوا من الفرح،
مَن مصّوا ومصّهم أولئك الساروفاتِ * البشرية، البحّارة، في عناقات حبٍّ للمحيط الأطلسيّ وللكاريبي،
من جامعوا في الصباح وفي الأماسي في حدائق وردٍ وعشب المنتزهات العامّة والمقابرِ ناثرينَ منيّهم بالمجّان حيا الله لمن كان ومن يريد،
من حَوزّقوا إلى مالا نهاية محاولينّ أن يُقهقهوا وانتهوا بانتحابةٍ وراء فاصلٍ في حمّامٍ تركيّ إذا أقبل الملاكُ الأشقر والعاري ليثقبهم بسيف،
من خسروا غلامهم العاشق لشمطاوات المصير الثلاث، الشمطاء العوراء للدولار الأحادي الجنس، الشمطاء العوراء التي تغمزُ من الرحمِ، والشمطاء العوراء التي لا تفعلُ شيئا غير أن تجلسّ على إستها وتقصّ الخيوطّ الذهبية للثقافةِ من مغزل الصانع،
مم نكحوا نشاوى لا يرتوون قنّينة بيرةٍ حبيبةً علبةَ سجائرَ شمعةً وسقطوا من السرير، ليستمروا على طوال الأرضية، نزولاً إلى الرواق ولينتهوا مغمىّ عليهم على الجدار برؤيا للفرج المطلق والمنيّ، كي يتملّصوا من قذفةِ الوعي الأخيرة،
من عسّلوا فروجّ مليون فتاةٍ مرتعشينَ في الغروبِ وكانوا حُمْر العيون في الصباح لكنهم استعدوا لتعسيل فرْجِ الشروق، مُبرقينَ أردافا تحت الأجرانِ وعراةٌ في البحيرة،
مّن خرجوا يعهرون عبرَ كولورادو في سيارات ليلية مسروقة بلا عددٍ، ن. ك، البطل السرّب لهذه القصائد، أدونيس دنفر وفحلُها الفرحُ لذكرى مضاجعاته التي لا تُحصى لبناتٍ في الخلاءات والباحات الخلفية لمطعمٍ ما، مقاعد السينما الأزازة، على قمم الجبال في الكهوف أو مع خادماتٍ ضامراتٍ في إزاحات موحشةٍ لتنّوراتهن على جانب الطريق وخصوصا الأنانات السرية المكتوبة في مراحيض محطّات البنزين، وكذلك أزقّة مسقط الرأس،
من تلاشوا سَدّرا في أفلامٍ واسعة مشينة، خُضخضوا في الأحلام، استيقظوا على مانهاتن فجائية، والتقطوا أنفسهم ليخرجوا من سراديب مصدوعينَ بخمرة توكاي* اللا قلب لها ومفازع الأحلام الحديدية للشارع الثالث ثم ترنّحوا باتجاه دوائر البطالة،
من ساروا طوال الليل وأحذيتهم بالدم مليئة على أرصفة مرفأ سدّها الثلجُ بانتظار أن يُفتح في النهر الشرقي بابٌ إلى غرفة ملأى بتدفئةٍ بخاريةٍ وأفيون،
مّن أبدعوا دراماتٍ انتحارية عظيمةً على ضفاف الهدسون المؤلفة من شققٍ كأجرافٍ تحت أنوار زمن الحرب الكاشفة، الزرقاء للقمر وإنّ رؤوسهم في النسيان لبالغارِ ستُكلل،
مَن أكلوا حساء الحَمل للمخيّلةِ وهضموا السلطعونَ على القاع الطينيّ لأنهار الباوري*،
من بكوا على رومانس الشوارع وعرباتهم اليدويّة مليئة بالبصل والموسيقى الرديئة.