قيمومة الشِّعر

ثقافة شعبية 2024/08/22
...

كاظم غيلان 



استعدت اليوم بذاكرتي واحداً من أهم وأبرز تقاليد شعر العاميّة العراقيّة ألا وهو المهرجان السّنويّ الذي تأسس في مدينة الناصرية وتحديداً في السابع من تموز 1969 لينتقل إلى المحافظات الأخرى حتى انتهى أمره بقرار السلطة في تموز 1973 بالناصرية ذاتها تنفيذاً لقانون ( الحفاظ على سلامة  اللغة العربية)  الذي صدر حينها وبدوافع سياسيَّة بحتة تحدثنا عنها مرارا .

في الدورة الثالثة للمهرجان الذي عقد بمدينة العمارة 1971 كان الشاعر الجميل الراحل ( لطيف حسين) أحد المشاركين  ضمن شعراء مدينة الديوانية، وبسبب وضعه الخجول وعدم قدرته على إلقاء قصيدته أناب الصديق ( نجم عبود السقا) الذي أبدع في قراءة قصيدة لطيف (شنيار الشهادة ) والتي كانت من قصائد المهرجان المتميزة :

" خذوك ابعيد يمه 

امسرده الغيره 

ازغر ...ونته تكبر ريح 

اسكت .. والظنون اتصيح :

يمه العازاتج  شبينه 

صل اركط ماغمض عينه 

 شرجي ومزنه  وواهك بينه

.....

انته لسه اتحوم لسه 

عرضك ابيض يلفتت شاهينه خرسه 

انه تانيتك دفو ابريسم 

على اخصور الحرير "    

كان لطيف يصغي منتشياً وهو يرى ويسمع إلقاء من أنابه في القراءة .

تذكرت ذلك المشهد وتلك الحالة ( الانابة) وأنا أبحث عن دلالات حالة أخرى هي ( القيمومة ) فوجدتها انابة يتيحها القانون  والشرع بشرط توفر مبرراتها كالعجز والوفاة والمرض مقترنة بموافقة صاحبها .

في مشهدنا الثقافي والشعري تحديداً وفي ظل فوضى وتشوش لاحدود له وانفلات لا راد له وبفعل تضخم ال ( انا) المفرغة تماما إلا من  نرجسية مفرطة غلبت أصحابها  تجد ثمة القيم على الشعر، هذا الذي يسقط تجربة ويعلي شأن أخرى وفقاً لهواه واجتهاده ، يزيح جيلاً وينصب جيلاً ، يسرد وقائع كاذبة رحل أهلها عن الحياة ليكون هو الشاهد الحي الوحيد مع أن الجميع يعرف بأنه( شاهد مشافش حاجة) باستثناء المغفلين أو من أبناء الأجيال الجديدة ، والتي مست بعضهم عدوى ( النضال ) في مقارعة نظام اسقطته اميركا يوم كان مشاركاً في استعراضات ( الطلائع والفتوة) أو تراه مهووساً بالحديث عن ( جان دمو وجبار الغزي وعبد الأمير الحصيري ) دون أن يحفظ جملة واحدة لأي منهم .

هذه ال ( انا) لها أهلها في الشعر تملكها من كانت لائقة به كالمتنبي:

(أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي 

وأسمعت كلماتي من به صمم)

أو الحصيري الذي كتب في ذروة تسكعه وصعلكته:

( أنا الاله وندماني  ملائكة

والحانة الكون والجلاس من خلقوا).

قالها يوم كانت حتى للحانات مجالس وللمقاهي الثقافية هيبتها حيث يرتادها شجعان الرأي والشعر والفعل، يوم لم تكن للثرثرة فسحة ولا سطوة لمنتحلي صفة الريادات المزورة والفتوحات المريضة، وإلا فهل يعقل أن كل  من يحمل هوية نقابة فنية أو شعريّة او حاملا  تراب ( المربد) له حق القيمومة  على الثقافة كلها ونحن على قيد الحياة؟

نعم ..مشهدنا الذي نعيشه غاية في الاعتلال والهزالة، لكنه لم يزل في تنفس.