بغداد ذاكرة الماضي وخرائط الحاضر

منصة 2024/08/22
...

 رضا المحمداوي 

ألقى التأسيس التاريخي لمدينة بغداد في عهد الخلافة العباسيّة ظلاله عليها ووسمها بطابعه الخاص ومنحها العمق والأصالة عن بقية المدن العربيّة والإسلاميّة، واستمرَّتْ عمليات البناء وإضافة اللبنات التأسيسيّة لهذه المدينة العريقة خلال حكم الامبراطورية العثمانية لها، وبعدها الاحتلال البريطاني للعراق والحقبة الملكية ومن ثم العهد الجمهوري، إلا أن أهم ملاحظة يتم تسجيلها على هذه العهود والحقب التاريخية الطويلة هو الانقطاع الحاصل بين حقبة وأخرى بدون أي تطور أو تحديث تراكمي يسير وفق خط  بياني حضاري متصاعد.

ومَنْ ينظر إلى بغداد الآن تبدو له وكأنها مدينة نَهضَتْ من سباتها ونَفَضَتْ غبار الكسل والتراخي عنها لتواصل عمليات البناء والـتأسيس والتطوير من جديد وقد بدأت للتو باِضفاء اللمسات الحديثة على خارطتها ومعالمها والسؤال هنا: هل في حاضر بغداد الراهن ما يدلُّ أو يشير إلى ملامح نهوض مستقبلي مُحتمل؟  

 على سبيل المثال لا الحصر تم الاحتفال إعلامياً بالأمس القريب بمناسبة مرور مئة عام على شق وتشييد شارع الرشيد التاريخي الذي تم بناؤه في العهد العثماني وأكملتهُ قوات الاحتلال البريطاني. والآن انظروا معي إلى هذا الشارع التراثيّ القديم وخرائبه ومبانيه المتهالكة وأزقته وبيوت محلاته وأحيائه الشعبيّة القديمة المتداعية والمناطق المحيطة به والمجاورة له لنتساءل إلى متى سيعيش هذا الشارع ومناطقه في الزمن الماضي المُتكلّس؟ 

النهضة العمرانية المطلوبة بطابعها الحضاري المتطور والصورة المستقبلية المفترضة يجب أنْ تكون حاضرة أوّلاً في عقول قادة وساسة البلاد وفي نمط تفكيرهم وفي صلب اهتمامهم وأهدافهم وطموحاتهم، وكذلك يجب أنْ تكون ماثلة في عقول مهندسيها وبنّائيها وعمالها الجادين وراسمي ملامحها المستقبليّة قبل أنْ تكون مجرد تخطيطات ورسومات هندسيّة على ورق الخطوط البيانية والنماذج المصغرة (الماكيتات).

وإذا افترضنا حسن النية وبالغنا في التفاؤل وزعمنا أنَّ هذه الصورة المستقبليّة الزاهرة موجودة في العقول والخرائط معاً.. فما هو السقف الزمنيّ المُحدّد والمفترض أن نمرَّ تحته  قبل أنْ نرى بغداد- الحلم  مجسدةً على أرض الواقع؟

بمعنى هل هناك خطة علميّة مدروسة وبرامج مرحلية ونسب انجاز محددة في وقت معلوم؟ قبل أيام قليلة أَعلنتْ الحكومة عن الخطة التنموية الخمسية للأعوام 2024- 2028، فهل تمَّ إدراج عملية تطوير مدينة بغداد (الجديدة) ضمن هذه الخطة ببرنامج ستراتيجي وتخطيط مستقبلي يضفي عليها النضارة والحيوية والحداثة؟ أم يبقى وضع بغداد (القديمة) على ما هو عليه إلى ما لا نهاية!

ولكي أكون مُنصفاً لا بُدَّ لي من ذكر أنَّ مدناً جديدة سيتم بناؤها خلال الأعوام الخمسة المقبلة مثل مدينة «علي الوردي» في منطقة النهروان ومدينة (الجواهري) في منطقة «أبوغريب» و «مدينة الصدر الجديدة» في منطقة شرق القناة، ولكن ماذا عن  قلب مدينة بغداد القديمة بمحلاتها ومناطقها السكنيّة بملامحها الشاحبة ومبانيها المتهالكة التي أكل الدهر عليها وشرب! فهل تبقى رهينة الماضي العتيق أم تمتد يد الدولة لتنتشلها من براثن الاهمال والتجاهل والنسيان الذي يوحي لناظرها وكأنها غير موجودة على خارطة بغداد! 

كيف يمكننا أنْ نتحدث عن بغداد (العاصمة) بوصفها مركزاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً معاصراً ينبغي له الإشعاع والتأثير والامتداد إلى المحافظات الأخرى.

وكيف يمكن لبغداد أنْ تكون مثالاً أو نموذجاً يقتدى به من خلال صياغة وبلورة تجربتها الحضارية كمنوذج يُرادُ له التقليد أو التكرار أو المشابهة من حيث الاستفادة من آليات العمل ووضع الأُسس وبناء مرتكزات التنمية العمرانية المستدامة؟

بالتأكيد أنَّ حاضر بغداد وواقع الحال الذي تحيا بها اليوم لا ينسجم تماماً مع اسم بغداد برنينه التاريخي ولا يتناسب كذلك مع الخصوصية السياسية والجغرافية التي تحظى بها، ولا بُدَّ من وضع الخطط والسبل والخطط العلمية والعملية التي تمكننا من استعادة مكانة بغداد التاريخية وهويتها الحضارية الراهنة واستعادة صورتها المفقودة وسط ملامحها المترهلة الشائخة التي أتعبها الزمن!

كيف يمكن أنْ نستلهم من فكرة بغداد «المُدوَّرة» الراكدة في أعماق التاريخ صورة جديدة؟ أمْ أنَّ الزمن الدائري الذي دار عليها وما زال يدور قد حكم عليها بالدوارن الفارغ على نفسه دون أنْ يمنحها فرصة التقدم بخطوات كي تلحق بمدن وعواصم دول الجوار في أقل تقدير؟ ولا أُريدُ أنْ أكون طموحاً أكثر من ذلك لإقارنها بمدن وعواصم الدول المتقدمة، رغم أنَّ «بغداد» جديرة بهذه المقارنة استناداً إلى عمقها التاريخي، وهي أهلٌ باصالتها لأن تحمل في ذاكرتها هذا الحلم الجميل.

ولنا في المدن القريبة منا أسوة حسنة مثل طهران واسطنبول وأنقرة لعقد صور المقارنة بين الواقع الذي تعيش به بغداد منذ سنوات طويلة وواقع حال هذه المدن.

ويمكن في إطار هذه المقارنة والمقاربة طرح نماذج العديد من مدن الخليج العربي المجاورة التي أصبحتْ مدناً يُضرب بها المثل في التطور والنمو الحضاري المستدام ذلك لأنها تركتْ الماضي القديم خلفها وسبقتنا في الانتماء للمستقبل! 

والسؤال الأخير: متى يمكننا وضع الحجر الأساس لبناء بغداد المعاصرة بمثل هذه الخواص والمواصافات العمرانية الحديثة والملامح الحضارية المتطورة التي تشمل جميع مناحي الحياة وعلى كافة المستويات والأصعدة؟