ازدهار الاتجار بالبشر يؤسس لعبودية جديدة

بانوراما 2019/06/17
...

آرين بيكر 
ترجمة: مي اسماعيل 
حينما شوّه خاطفوه الليبيون وجهه؛ كان “سانداي إيباروت-Sunday Iabarot “ قد فر مرتين وبيع ثلاث مرات؛ وكانت العلامات على وجهه (كما يقول) نوعا من العقوبة والتعريف. جرى ايضا تشويه وجوه 14 رجلا آخرين حاولوا الفرار من المستودع النتن الذي بقوا محتجزين فيه عدة أشهر سنة 2017 ليكونوا عمالة قسرية في “بني وليد” بليبيا؛ رغم أن العلامات على وجوههم تباينت. لم يكن “سانداي” (وهو غير متعلم) متأكدا من كونها أرقاما أو حروفا؛ أو مجرد خربشات ملتوية لرجال مختلين لا ينظرون الى سجنائهم السود أكثر من مواشي تباع وتشترى.. يقول “سانداي” (عمره 32 سنة، من مدينة بنين بنيجيريا): “لقد عاملونا وكأننا لسنا بشرا”. 
سانداي واحد من نحو 650 ألف رجلا وامرأة عبروا الصحراء الأفريقية خلال السنوات الخمس الماضية؛ حالمين بحياة أفضل في أوروبا. هرب بعضهم من الحروب والإضطهاد؛ وترك آخرون (مثل سانداي) قراهم، بعدما رفع الخلل الاقتصادي والأمطار التي لا يمكن التنبؤ بها من نسب  إستحالة العثور على عمل فيها، أو حتى ما يكفي للأكل. ولغرض نجاح الرحلة المروعة؛ يستعين المهاجرون بخدمات مهربين عبر الصحراء؛ ممن يستفيدون عن طريق زيادة حمولة شاحناتهم من الأسلحة والمخدرات والسلع المهربة الأخرى بالحمولة البشرية. ولكن على امتداد ذلك الطريق وجد آلاف مثل سانداي أنفسهم يعاملون ليس فقط كبضاعة بل رقيق؛ محاصرون داخل حلقة مرعبة من الابتزاز والسجن والعمل القسري والبغاء، وفقا لتقديرات المنظمة الدولية للهجرة (IOM) ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. تقول “كارلوتا سامي” المتحدثة الرسمية الإقليمية ضمن جنوب أوروبا للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة: “لا يواجه أولئك الناس معاملة غير انسانية فقط؛ بل يُباعون من تاجر لآخر”.
 
تجارة مربحة
إنهم عبيد أساسا؛ وهم أناس تحولوا الى ممتلكات لها قيمة ثابتة بناءً على تقييم نوع الدخل الذي يمكن أن يجنيه أصحابها حين يتم تشغيلهم اضطهادا أومن دون أجر، أو في البغاء (كما هو الحال عادة مع النساء). قد تبدو العبودية من بقايا التاريخ؛ لكن وفقا لمنظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة (ILO) يوجد اليوم أشخاص يعيشون تحت العبودية القسرية أكثر بثلاثة أضعاف مما جرى الإمساك بهم وبيعهم خلال 350 عامًا من تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. ويشمل ما تطلق عليه المنظمة “العبودية الجديدة” نحو 25 مليونا من عبودية الديون و15 مليونا نتيجة لزيجات قسرية. ولأنها تجارة غير شرعية، تعتبر من الأكثر درا للأرباح على مستوى العالم؛ فهي تُدخِل الى الشبكات الإجرامية نحو 150 مليار دولار سنويا؛ وهو أقل بقليل من مدخولات تهريب المخدرات ونقل الأسلحة. يقول “سيدارت كارا”، الخبير الأقتصادي بمركز كار لسياسة حقوق الإنسان: “أصبحت العبودية الحديثة الآن أكثر ربحية من أي وقت مضى خلال تاريخ البشرية”. 
أثبت الممر الواصل بين أكثر الدول الأفريقية اكتظاظا بالسكان الى سواحلها المتوسطية بأنه الأكثر ربحية للعصابات؛ فبينما يدفع النزاع السياسي والتغير المناخي وانعدام الفرص أعدادا متزايدة من البشر للخروج عبر الحدود؛ فأن السياسات الأوروبية القاسية المصممة للحد من الهجرة تنقلهم إلى أيدي سائقي العبيد المعاصرين. ولعل تلك التجارة تبدو بأوضح صورها في ليبيا؛ حيث وثّقت منظمات العون والصحفيين مزادات حقيقية لسوق العبيد. غير إن هذا بات ينتقل الآن الى جنوب أوروبا أيضا، وخاصة ايطاليا؛ حيث وقع المهاجرون الضعفاء ضحية الاجبار على العمل من دون أجر في حقول جني الطماطم والزيتون والحمضيات، أو أنهم سيقوا الى البغاء. 
يقول “أبو بكر سوماهورو” ممثل نقابي من ساحل العاج جاء الى ايطاليا منذ 17 سنة أملا بايجاد حياة أفضل: “لم يعد تجار العبيد بحاجة للذهاب الى أفريقيا ليمسكوا ببضاعتهم؛ فقد حلّ حبل اليأس محل سلاسل الحديد، والآن يرسل الأفارقة أنفسهم الى أوروبا ليصيروا عبيدا من خلال ذلك المسعى”. 
 
في عنق الزجاجة
فحينما وصل سانداي الى حدودو ليبيا الجنوبية، قابل سائق سيارة اجرة كان يبدو لطيفا؛ إذ عرض عليه ايصاله الى العاصمة طرابلس مجانا. لكنه، بدلا من ذلك بيع، الى “ليبي أبيض” (رجل عربي) بمئتي دولار، ثم أُجبر على العمل في موقع للانشاءات لكي يدفع “ديونه”. وتكرر هذا النمط مرارا مع كل مرة يباع فيها. يقول سانداي من مجلسه في حجرة مظلمة بفندق مهجور بمدينة بنين، تستخدمه الحكومة النيجيرية لايواء الضحايا الذين جرى انقاذهم من ليبيا: “ يمكنك الحصول على الطعام اذا عملت، أما إذا رفضت فيجري ضربك. واذا هربت وأمسكوا بك...” ثم يخفت صوته.. لتحكي الندوب الظاهرة على وجهه بقية الحكاية. خلال العام 2016، وهي السنة التي رحل فيها سانداي من نايجيريا؛ ارتفع عدد المهاجرين الواصلين من ليبيا الى ايطاليا الى نحو 163 ألفا، ما أدى الى رد فعل سياسي عمل على وقف تدفقهم بأي ثمن. وبحلول شباط 2017 أطلق الاتحاد الأوروبي خطة لتدريب وتجهيز حرس السواحل الليبية لإعتراض قوارب المهربين ووضع المهاجرين داخل معسكرات احتجاز. 
بعد سنتين انخفض عدد الواصلين الى ليبيا بنحو 89 بالمئة؛ لكن تلك السياسة تسببت بحالة “عنق الزجاجة” على الجانب الاخر من المتوسط، مع أزمة انسانية مستمرة. وتقدر “IOM” أن نحو نصف مليون مهاجر افريقي من دول جنوب الصحراء عالقون الآن في ليبيا؛ وهم عرضة للإستغلال من قبل الجماعات المسلحة والمسؤولين الفاسدين. خلال العام الماضي ذهبت “جولي أوكاه- دونلي” المدير العام للوكالة الوطنية النيجيرية لحظر الاتجار بالأشخاص الى ليبيا ضمن مهمة لاستكشاف الحقائق؛ بعد سماع التقارير عن أشخاص نايجيريين يعيشون أوضاعا.. “تقارب العبودية”. تقول جولي (عن المشاهدات التي أصابتها بالقرف): “بعض المعسكرات التي زرناها تشهد نقل الاشخاص بشاحنات ليعملوا في المزارع والمصانع بلا أجر إطلاقا، وطالما بقوا في تلك المعسكرات فإنهم سوف يُعاملون كالعبيد”. 
تصاعد الغضب دوليا وبسرعة حينما بثت محطة “سي أن أن” الأميركية أواسط تشرين الثاني من سنة 2017 فيلما مصورا لما بدا أنه مجموعة من المهاجرين الأفارقة يُباعون في مزاد للعبيد بأحد معسكرات الاحتجاز بليبيا. شجب مجلس الأمن تلك..”الانتهاكات الفظيعة”، وطالب الاتحاد الأوروبي.. “بإجراء عاجل”، بينما دعا الرئيس الفرنسي ماكرون لعملية انقاذ عسكرية. ومع ذلك، وبعد مرور سنوات؛ لم يتخذ سوى القليل لمنع تلك الاساءات. 
 
قصص الاحتيال تتشابه
جددت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الدعوات لإيقاف سير المهاجرين المتجهين لأوروبا عند السواحل الليبية. تقول “هبة مرايف” مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمنظمة العفو الدولية”: “تبقى أوضاع اللاجئين والمهاجرين المقبلين الى ليبيا كئيبة؛ فاقتران السياسات القاسية للدول الأوروبية لمنع وصول المهاجرين الى السواحل الأوروبية مع دعمهم الضئيل (بشكل محزن) لمساعدة اللاجئين للوصول الى الأمان عبر الطرق المألوفة يعني أن الآلاف من الرجال والنساء والأطفال عالقون في ليبيا بلا مخرج، بمواجهة اساءات مروعة”.
من تلك الحالات قصة “جوي” الطالبة الجامعية من الكاميرون ذات الــ23 عاما، التي وصلت الى صبراتة الليبية منتصف آب 2017، معتقدة أنها في طريقها الى فرنسا لكي تصبح عارضة أزياء. وبدلا من ذلك أغارت إحدى الميليشيا المدعومة حكوميا على مكان سكنها (متشجعة بإتفاق مع الاتحاد الأوروبي لتفكيك شبكات التهريب)، ثم اختطفتها مجموعة معارضة واحتجزتها مع نساء أخريات داخل غرفة مغلقة لعدة أشهر. كان من المتوقع تشغيل النسوة في البغاء، وبيع بعضهن الى باحثين عن فتيات يعملن ضمن مواخير خاصة. تُرِكت جوي لحالها لأنها كانت حاملا خلال ذلك الزمن، لكنها تؤكد أن الأوضاع كانت..”لا انسانية”، لأن توجيهات الاتحاد الأوروبي لإيقاف سيل اللاجئين شجعت الليبيين الفاسدين وضاعفت من تحاملهم العميق ضد الأفارقة السود، قائلة (من ملجأ للنساء المحتجزات في لاغوس- نايجيريا): “فهم الليبيون أن الاتحاد الأوروبي لا يرغب بقدوم السود؛ مما يعني أن لا قيمة لنا كبشر، بل إن الاتحاد الأوروبي يكافئ تلك الميليشيات لاستغلالنا واغتصابنا وبيعنا وقتلنا”. 
 
طماطم تنتجها العبودية
لا ينجو المهاجرون الواصلون الى أوروبا من الاستغلال؛ فعلى إحدى طرق بوغليا (جنوب ايطاليا) مطلع آب الماضي اصطدمت شاحنة محملة بالأفارقة بعربة لنقل الطماطم وسقطت في البحر. مات بسبب الحادث 12 عاملا مهاجرا بعدما قضوا نهارا مرهقا يعملون بالحصاد؛ وكان الحادث الثاني من نوعه خلال أيام. وبانتهاء ذلك الاسبوع كانت حصيلة الموتى 16 رجلا من غانا وغينيا وغامبيا ونايجيريا ومالي والمغرب والسنغال. كان هؤلاء ضحية استدراج نظام ايطالي قديم يدعى “كابورالاتو caporalato” للعمالة بالسخرة؛ يسمح للمزارعين بتنويع مصادر الأيدي العاملة لقاء أجر محدد وتفادي ضرائب الاجور ومعايير السلامة والحد الأدنى من الأجر بضربة واحدة. أنه نظام غير قانوني منتشر كثيرا، تديره الجريمة المنظمة. قدرت نقابات العمال الايطالية (ضمن تقرير لها سنة 2018) عدد الواقعين تحت سيطرة ذلك النظام بنحو 132 ألفا، يعانون من شتى أنواع الاستغلال مثل عدم تقاضي الاجور والاساءة الجسدية. وأغلب أولئك من مهاجري جنوب الصحراء الأفريقية وأوروبا الشرقية. 
يقول “ايفان ساغنيت” الناشط ضد العبودية من الكاميرون، والذي يعيش في ايطاليا منذ سنة 2010: “أنه نظام قديم لكنه يستغل المهاجرين لظروفهم الصعبة؛ فليس لديهم وثائق قانونية ولا يعرفون حقوقهم، وهم بحاجة ملحة لكسب المال”. كان ايفان ذاته ضحية نظام “caporalato” لأنه طالب أجنبي، حينما فشل في امتحاناته الجامعية وخسر منحته الدراسية. أخبره صديق أن بامكانه كسب المال بالتوجه الى بوغليا لجني الطماطم صيفا؛ وحينما وصل إليها عاش حالة تستخلص الحد الأعلى من الجهد لقاء الحد الأدنى من الاجور (إذ تستقطع اجور نقل العمال من والى المزارع واجور طعامهم وشرابهم فلا يتبقى لهم الا الكفاف). 
 
إنه ذنب المهاجرين 
بعد يوم من حادثة بوغليا شجب وزير الداخلية الايطالي “ماتيو سالفيني” (وهو أيضًا رئيس حزب الرابطة المتطرفة المناهضة للمهاجرين) دور المافيا الايطالية بسبب ممارساتها لإستغلال العمال؛ لكنه وضع اللوم على المهاجرين: “هذه الحوادث تخبرنا أن الهجرة الخارجة عن السيطرة تساعد المافيا؛ فلو لم يكن هناك مهاجرون يائسون يتم استغلالهم، سيكون من الصعب على المافيا ممارسة ذلك النظام”. وايقاف الهجرة (كما يقول) سيسهم بايقاف الجريمة المنظمة. لكن ذلك سيكون (على حد قول ايفان) نهاية صلصة الطماطم الرخيصة والنبيذ وزيت الزيتون؛ مشيرا الى أن الايطاليين ليسوا مستعدين للعمل 16 ساعة يوميا أو جني الطماطم لقاء اربعة دولارات للصندوق؛ ويمضي قائلا: “ليست المشكلة هي المافيا أو المهاجرين؛ وإنما ثمن البضائع الرخيصة. فحينما يقول تجار التجزئة أنهم سيشترون كيلو الطماطم بثمانية سنتات فقط، لن يدفع المزارعون اجورا اعتيادية للعمال. ولو رفعت المتاجر السعر سينصرف الزبائن الى غيرها.  
يدير ساجنيت اليوم منظمة مناهضة للعبودية تدعى: “كلا للكابورالاتو؛ ويرى أن التنافس على تسهيل التسوق الألكتروني يسهم بالاساءة الى العمالة المهاجرة. يقدّر ساجنيت سعر كيلو الطماطم (شاملا النقل والتغليف) يجب أن يكون 2 يورو (دولارين وربع)؛ فلو وجدها المستهلك في السوق بسعر ثلاثين سنتا يعني ذلك أنها جاءت عبر نظام كابورالاتو؛ إذ لا توجد طريقة اخرى لانتاجها بهذا الثمن. وهذا لا ينطبق على الايطاليين ومنتجاتهم فقط؛ فالطلب العالمي المتزايد على الهواتف اللامعة والأطعمة الفاخرة ومنتجات الشعر يعني أن انتاجها يمر بالعمالة المستعبدة. وقد أطلقت منظمة ساجنيت في ايطاليا عملية تهدف لإصدار شهادات ستمكن المزارعين من تسويق منتجاتهم بوصفها لم تأتِ عبر العبودية، وأن يقوم الموزعون المحليون بعرض منتجات معتمدة بنفس المبدأ في محلات البقالة. وإذا اعتاد الناس على دفع مبالغ أعلى قليلا لقاء المنتجات العضوية (كما يقول ساجنيت)؛ أفلا يكون لهم خيار شراء منتجات خالية من العبودية أيضا؟ 
مجلة تايم الأميركية