ابراهيم العبادي
ارتبط مفهوم المجال العام بالفيلسوف الاجتماعي الالماني يورغن هابرماس، فهو الذي تتبع نشوءه، وهو الذي خصص للفعل التواصلي جل اهتمامه، والمجال العام بنظر هابرماس - كما يشرح عالم الاجتماع البريطاني انتوني غدنز -هو حلبة النقاش العام الذي تدور فيها المساجلات، وتتشكل فيها الآراء والمواقف حول القضايا، التي تجسد اهتمامات الناس وهمومهم.. ويمثل المجال العام.. التقاء الناس بوصفهم أفرادا متساوين في منتديات شبه مفتوحة للمناقشات العامة. (غدنز، 2005)، المجال العام إذن هو المساحة المفتوحة التي يمارس فيها الناس حرية التعبير والحوار والمجادلات في القضايا، التي تلامس اهتماماتهم ووجودهم، ابتدأ المجال العام من الصالونات والمنتديات والمقاهي، ومر بالصحف والنشرات وانتهى بوسائل الإعلام العامة، يرى هابرماس أن انتشار وسائل الإعلام الجماهيرية وسيطرة صناعة الترفيه العام شوها المجال العام، لأن مناقشة القضايا السياسية أصبحت مرهونة، بما يدور في وسائل الإعلام وفي أروقة البرلمان، فيما هيمنت المصالح التجارية والاقتصادية على الصالح العام، ولم يعد الرأي العام يتشكل من خلال النقاش العقلاني المفتوح، بل غدا محصلة لعمليات الاستمالة والتلاعب والسيطرة، فيما يعتقد المفكر الفرنسي جان بودريار أن وسائل الإعلام الجماهيرية ولاسيما الإلكترونية أحدثت تحولا في حياة الناس، كونها لم تعد تعرض العالم كما هو بل تعيد تعريف العالم وتحدده، صار التلفاز ينقل عالم الواقع المفرط كما يسميه بودريار، والواقع الحقيقي لم يعد موجودا، بل بما تعرضه
الشاشات.
وعالم الواقع المفرط يتكون من اختلاط السلوك البشري والصور الإعلامية، (غدنز، 2005).
تفيدنا شروحات غدنز في فهم الأهمية البالغة للمجال العام في حياة المجتمعات المعاصرة، إذ أن وعي الناس ومساهمتهم في تقرير قضاياهم الحاسمة والمصيرية، إنما يتبلور عبر النقاش العام المفتوح، وفيه أيضا تتحدد اتجاهاتهم وميولهم، التي تحسم هذه القضايا عبر الاقتراع والانتخاب وممارسة الضغوط وتفعيل الديمقراطية فعلا لا صورة. بيد أن دخول وسائل التواصل الضخمة واضطلاعها المباشر وغير المباشر في تصنيع الآراء والاتجاهات قوض قدرة الافراد على التفكير النقدي المستقل، كونها تقدم قناعات وصورا ووثائق تختزل الواقع، وقد تقزم الحقائق وتحرف الانتباه وتقدم أولويات ليست هي الأولويات
الحقيقية.
يتعرض العراقيون يوميا لسيل من الأخبار والبرامج السياسية، وتثار زوابع إعلامية بشأن مشكلات وحوادث وقضايا ذات طابع سياسي وتعرض المشكلات والأزمات الكبيرة بطريقة مبتسرة، يتجادل فيها سياسيون حزبيون وإعلاميون متحزبون، وتتخصص قنوات ومواقع إعلامية في إعلام الإثارة، وقد اجتذبت هذه البرامج الجمهور بداية وصار التنافس على اشده بين وسائل الإعلام، بل مالكيها على الإمعان في التوسع ببرامج (الشو) الإعلامي، حتى لا يجد المراقب للفضاء السياسي والإعلامي العراقي سوى نجوم تلفاز يتجادلون يوميا في دائرة من الجزئيات والتفاصيل، التي لا تعكس غير بؤس الحال العراقي وفضائحياته، وتواضع التكوين المعرفي والثقافي لهؤلاء المتجادلين، والغلو المتزايد في التعويض عن الفكر والثقافة بفائض من الخطابات الاستعراضية، مع ضياع واضح لبوصلة الأهداف، التي ينبغي أن تكون رائد مجتمع ونخبته، لتجاوز حاله المتخم بالإشكاليات والتخلف الشامل.
العراق تخلف عن العالم نصف قرن، وزادت مشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أضعاف ما كان يعاني اصلا، وطريق البناء الطويل يستدعي عملا معرفيا جادا ونخبة مؤثرة ذات حضور اجتماعي وثقافي تستطيع اضاءة المجال العام، وفتح الحوار والنقاش العلمي أمام الجمهور وصناع السياسات وأهل النفوذ والجماعات الحزبية، لا يمكن إدارة البلاد بأزماتها المتجددة والمتكاثرة، والبلد يخضع لهيمنة خطابات إعلامية وسياسية مسطحة لا تنفذ إلى قاع المجتمع، ولا تبحث جذور المشكلات بل تكتفي بالعرضي والسطحي من النتائج، ليس جلدا للذات أن ينبري أناس يحفرون في واقع الثقافة والتشكيلات الاجتماعية وطرائق النظر إلى الذات والعالم المحيط بنا، يعاينون الأسباب الجوهرية التي تجعل العراقي يجتر مشكلاته ويفشل في بناء دولته ويلحق بالعالم القريب والبعيد من حوله، ولا تجد غير ذات الدائرة البليدة من الاستضافات والعناوين السياسية والإعلامية، التي تكرر كلاما ممجوجا وتوجه رسائل سياسية مليئة بالمناكفات ومنطق الصراع، أين هي برامج الأحزاب والزعامات وخرائط طرقها لإعادة بناء الإنسان والمؤسسات
والبنية السياسية والاقتصادية؟ أين هي نخبها العلمية والفكرية التي تثير نقاشا برامجيا ومعرفيا وليس نقاشات صراعية على شاشات هدفها الشد الحزبي والانتخابي؟.
إن الدوران في حلقة النقاشات المسطحة للمسائل الأمنية والاقتصادية والسياسية لن يقود إلى بناء وعي جاد ومواطن فعال وإدارات مسؤولة نزيهة تخشى من انفضاض الجمهور وقدرته على المساءلة والتأثير، أحسب أن بعض النخب السياسية سعيدة بهذا اللون من الحراكات اليومية والخطابات الإعلامية الفضائحية، التي لم ولن تبن وعيا مسؤولا وحصانة ذاتية وقانونية لدى المواطن، يكفي النظر إلى واقع الفساد في البلاد لنكتشف عقم الخطاب اليومي، الذي فشل في بناء وعي يقاوم تغول هذه الظاهرة، التي تدمر البلاد وتسهم في بقائها متأخرة، بل إن الفشل الإعلامي والسياسي في تقييد وتحجيم الظاهرة، رغم التركيز الظاهر عليها يعكس خللا مجتمعيا واخلاقيا وقيميا ودينيا، وهو مايستدعي نقاشا جادا، وبحثا في عمق الظاهرة في مجتمع يعيش ظاهرا حالة دينية وطقوسية
هائلة.
المجال العام محتكر لخطابات لا تلامس حقائق وجذور المشكلات والقضايا، محتكر تواصليا وإعلاميا بيد المنتفعين من واقع الحال، والمجتمع الحي لا يشارك في تقرير مصير القضايا الأساسية، لتغلب الشعبوية السياسية والإعلامية وتواري أهل النظر والفكر إلى الهامش.