{أوروزدي الرشيد} يتحدى المولات الحديثة
يوسف المحمداوي
الكثير من شبابنا اليوم جعلته غفلته المتأتية من جهله بالتأريخ، فضلا عن غياب التوعية التعليمية والعائلية بماضي بلده، يظن أن المولات التي تتربع على عرش الأسواق المحلية في البلاد، هي وليدة فترة ما بعد التغيير في العام 2003، متجاهلا من دون دراية رقي وتطور بلده ليس في الماضي القريب، وإنما في عصور سبقت العالم في ولادتها وثراها الاقتصادي، منذ بدء الخليقة حياتها على خريطة العالم الجغرافية، ولأهمية السوق في انعاش الحياة الاقتصادية تجدها متصدرة اهتمام الحضارات القديمة، لما لها من جانب حياتي استراتيجي في حياة الشعوب.
ولأهميتها ورد ذكرها في ملحمة كلكامش في العديد من الفصول " وشاهد الناس كلكامش في دروب (اوروك) ذات الاسواق "، " تلاقيا في أوروك ملتقى اسواق البلاد " كما جاء في بحث الدكتورة هند شهاب العبيدي، التي تؤكد أن الآشوريين أطلقوا على جميع مراكزهم التجارية المهمة تسمية (كاروم)، وهي تسمية أكدية تعني أصلاً في اللغة الأكدية (رصيف أو حائط) ميناء يقع على نهر أو قناة، وتجمع عنده ضرائب الدخل على الوارد، ثم اتسع مفهوم الكاروم، ليعني السوق على جانب الرصيف بحسب قول العبيدي.
دموع غياب المنتج الوطني
لنترك " كلكامش " وأسواق الوركاء و" كاروم" الآشوريين، ونذهب مع عائلة ( أبو صفاء ) المتكونة من زوجته وخمسة أبناء، وهم يتجولون في أحد مولات بغداد الحديثة، علما أن رب هذه العائلة العائدة قبل شهرين إلى بغداد من الخارج، بعد هجرة استمرت لعقود عدة، كان يعمل مديرا في إحدى دوائر الشركة العامة للأسواق المركزية، التي كانت الرافد الحقيقي والمنقذ للمواطن العراقي في جميع المحن، التي مر بها من حروب وحصارات في زمن سلطة النظام الاستبدادي السابق.
(أبو صفاء) وهو يسير بصحبة عائلته ما بين أروقة ذلك المول متفرجا على السلع المعروضة وأسعارها المثبتة عليها، لاحظت زوجته بعض الدموع، التي ملأت عيون زوجها وقبل أن تبادره بالسؤال قال لها وهو يحاول إخفاء دموعه، إنها دموع الحسرة على ضياع المنتج العراقي وغيابه عن معروضات هذا السوق الكبير، مذكرا إياها أن منتوجاتنا كان المواطنون متلهفين على اقتنائها، يقفون بطوابير طويلة، من أجل الحصول عليها، لجودتها ومتانة صناعتها وأسعارها الداعمة للمواطن الفقير، واليوم لا أراها وهذا ما يحزنني جدا، أحد أولاده، وهو يبدي دهشته من الرقي العمراني الحديث، الذي تتسم به جميع اقسام السوق ( المول) وسلالمه الكهربائية وكافتيريا السوق، ما جعله يوجه السؤال لوالده، وهو بالتأكيد السؤال المتوقع من شاب لم ير صورة بلده سابقا، وانما يراه الآن بعد هجرتهم الطويلة " بابا لماذا تأخرنا عن بناء مثل هذه المولات الحديثة والراقية، ونحن كما تقول لنا دائما نحن أصحاب حضارة ورقي، وبلادنا من أغنى بلدان العالم؟
مكتبة ومقهى وصالون
استعان ( ابو صفاء) للرد على اسئلة ولده بمدونة الدكتور صباح الناصري، وهو الموسوعة الإعلامية العراقية " دكتوراه في الأدب ومقيم في منطقة النورماندي في فرنسا"، والمدونة يتحدث بها عن (أوروزدي باك الرشيد)، الذي يعد أقدم الأسواق المركزية في العراق، حيث يبين لنا أنه في عشرينيات القرن الماضي افتتح السوق، وبعدها افتتح فرعا آخر في البصرة، ويشير فيه إلى خريطة نشرتها باللغة الانكليزية مديرية الاشغال العمومية في امانة بغداد عام 1929، ومكتوبا على البناية(Orosdiback) من دون الفصل بين الكلمتين، موضحا أن السوق كانت تباع فيها أنواع مختلفة من البضائع المحلية الصنع والمستوردة، ولهذا حرصت على بيع منتجات جيدة النوعية وبأسعار ثابتة تكتب بجانبها، وكانت البضائع شاغلة لطابقين ( الطابق الارضي والاول)، ونصب بينهما مصعدا كهربائيا، لم ير الكثير من البغداديين مصعدا قبله، وكان المدخل من شارع الرشيد، والباب الرئيس للسوق زجاجي ودوار، ويقف أمامه بواب بزي رسمي، وتحيط بجانبي الباب واجهات زجاجية لعرض البضائع لجذب أنظار المارة.
الملفت لنظر البغداديين في ذلك الزمن أن الإدارة وظفت لمحال السوق بائعات يرتدين الزي الموحد، والى جانب الأقسام، التي تحتوي على العديد من المنتوجات المتنوعة، افتتحت في داخله وفي الطابق الاول منه مقهى أو ما نطلق عليه اليوم تبجحا (كافيه)، بحيث تطل نوافذه على نهر دجلة، وخصصت فيه ايضا مكتبة تبيع الاصدارات الجديدة للكتب العربية والأجنبية، فضلا عن افتتاح صالون نسائي للحلاقة والتجميل، واستعانت الإدارة في ذلك الزمن بخبيرة أجنبية متخصصة بالتجميل النسائي، وهناك فترات معينة للتنزيلات تجلب خلالها ادارة السوق بفرق موسيقية، تعزف بداخلها من أجل جذب وإغراء الزبائن.
ملاحظة: مع كل هذا الترف والثراء الحضاري لتلك الفترة، وحين نصفها بأيام الزمن الجميل، تطل
علينا اصوات بعض المرتزقة من نوافذ جشعهم ونفعيتهم، وهي تصرخ أنه زمن الجهالة والتخلف الأخلاقي والحكم الملكي غير الديمقراطي! ولا أدري ما ذا أسمي زمننا هذا، الذي يتبجح به هؤلاء أو كيف أصفه؟ ولكني أقول لهم وبملء الفم والقناعة أنا أحن إلى ذلك الزمن البغدادي الجميل، حنيني لأيام الصبا والشباب وأرثيه كرثاء أبي البقاء الرندي للأندلس ( لكُل شيءٍ إذا مَا تَم نُقْصَانُ... فَلا يُغَر بطيْبِ العَيْشِ إنْسَانُ ..هي الأمُوْرُ كما شاهدْتُهَا دُولٌ... مَنْ سَرهُ زمنٌ سَاءَتْهُ أزمانُ).
أشهر الماركات العالميَّة
وتستذكر شاعرتنا في رسالتها " كان المبنى كما أتذكر بطابقين، ولم يكن واسعا جدا وكانت بضاعته فرنسية على الأغلب، ولم يكن يحتوي على مكتبة لبيع الكتب. هذا ما أستطيع قوله عن المكان لصغر سني آنذاك، وكل ما لصق بذاكرتي أن الألعاب الجميلة كانت توضع في مقدمة المخزن، وفي 1950 انتقل المخزن إلى مبناه الجديد الواسع في شارع الرشيد، محلة سيد سلطان علي، وقد حضرت مع أهلي الافتتاح الكبير، ورأيت دهشة الناس بالمصعد الذي يذهب إلى الطابق الثاني، وكان يحتوي على مصطبة خشبية لراحة المسنين، كان مدهشا بتنظيمه وتنوع أقسامه التي بين الملابس الفاخرة الفرنسية والإنجليزية للرجال والنساء والأطفال والأجهزة المنزلية والإكسسوارات من أشهر الماركات، وكانت أطقم الطعام البورسلين من نوع روزنتال Rosenthal وWedge Wood الإنجليزية العريقة، وأطقم الفضة كريستوفل Christofle، والكريستال البوهيمي كمثال. وكان فيها قسم كبير للقرطاسية بأنواعها بما في ذلك المواد الفنية، وآخر لعدد الخياطة والتطريز والحياكة، وقسم لأغراض المطبخ، وكان اختلافه عن مخازن حسو اخوان أن الأخير كان أكثر اهتماما باستيراد المستلزمات المنزلية الضخمة من أثاث وأدوات وكهربائيات، والتي كان يستوردها من أمريكا.
في مطلع الستينيات، بيعت مخازن أوروزدي باك، واشتراها شراكة اثنان من رجال الأعمال والصناعة في بغداد هما منذر فتاح من أصحاب معامل فتاح باشا، والمصرفي السيد مهدي الرحيم. وبدأت محال أوروزدي باك، التي أصبح اسمها شركة المخازن العراقية، تستعيد نشاطها. فتشكلت هيئة إدارتها من مجلس يمثل نخبة من رجال الأعمال والمثقفين برئاسة علي حيدر الركابي، الذي كان مديرا لنادي المنصور منذ تأسيسه في 1951، ومن أولويات مهام الإدارة أن ترقى بالذوق العام، بعد أن بدأ يتدنى نتيجة للقيود الاقتصادية، سواء أكان في الملبس أو الأدوات المنزلية أو الأثاث. وتولت الإشراف على ذلك السيدة سعاد العمري، بحسب ما جاء في رسالة المظفر".
تاريخ تاميم ( أوروزدي باك)
رب الأسرة الذي ينقل لنا مدونة الناصري، التي يقول إن الحكومة العراقية قامت بتأميم أسواق الأوروزدي في سبعينيات القرن الماضي، لتصبح ملكا للدولة تحت اسم " الاسواق المركزية" بإدارة الشركة، التي تحمل اسمها وتابعة لوزارة التجارة، لكن في تعقيب لاحق على المدونة من قبل الموظف السابق في شركة الاسواق المركزية والمسؤول المالي فيها "علاء مهدي" من عام 1971 - 1981 يقول فيه: " لم يتم تغيير اسم الشركة من أوروزدي باك إلى شركة المخازن العراقية عند بيعها في مطلع الستينات، بل تم ذلك بعد تأميمها في منتصف الستينات، حيث أصبح اسمها لاحقاً (شركة المخازن العراقية – أوروزدي باك)، وبقي كذلك لمدة بعدها تم رفع اسم أوروزدي باك في بداية السبعينيات من الاسم، وبقى اسمها الرسمي هو شركة المخازن العراقية فقط، لكن البغداديين والعراقيين ظلوا يسمونها: (أوروزدي)"، وأكد الموظف السابق المقيم في استراليا " تم تأميم أوروزدي باك ضمن قرارات التأميم التي صدرت في 1964 وليس في بداية السبعينيات كما تم ذكره. وبدأت الشركة الجديدة، التي أصبح اسمها الرسمي شركة المخازن العراقية بالتوسع في فتح فروع لها ليس في كل محافظات العراق والأقضية فقط، بل في مناطق نائية وسياحية مثل مندلي ومصيف سرسنك وشقلاوة، وكانت أول مديرة للشركة هي المرحومة السيدة سعاد العمري، وصاحب التعقيب هو مدير حسابات الشركة بحسب قوله".
من محاسن الصدف ونحن نتطرق إلى هذا الشاخص المهم( أوروزدي الرشيد) بأن أول من تولى ادارة للشركة العامة للاسواق المركزية، كانت امرأة وهي المرحومة السيدة " سعاد العمري"، واليوم ايضا تتولى ادارتها السيدة "زهرة الكيلاني"، التي لها أكثر من تصريح لوكالتنا (واع)، وبقية قنواتنا الفضائية أكدت فيها بأن الشركة العامة للأسواق المركزية ماضية صوب اعادة الاسواق إلى سابق عهدها، وسوق الرشيد الذي كان فارسنا في ذاكرة مكان، أصبح الأول في اهتمامات الشركة مع عدد آخر من الأسواق، كما جاء في تصريحات الكيلاني.
من هو أوروزدي باك؟
أحد الأبناء يقطع حديث والده عمَّا جاء في مدونة الناصري، ويسأله عن أصل ومعنى كلمة (أوروزدي باك)، فيجيبه الوالد بعد جلوسه في الكافتيريا الخاصة بالمول: " إن الكلمة هي لقب لعائلتين يهوديتين تعيشان في دولتي النمسا والمجر امتهنا التجارة، وبعد أن تشاركا تزوج أدولف أوروزدي من أخت التاجر موريس باخ، وبعد أكثر من عقدين تشارك ولدا أوروزدي مع هيرمان وجوزيف ابني موريس باخ، واتفق الاربعة على تسمية شركتهم الجديدة (أوروزدي_ باخ )، وفي العام 1879 تزوج هيرمان باخ من ماتيلدا أوروزدي شقيقة فيليب وليون في باريس واقاما فيها، وافتتح مقر شركتهم الرئيس في باريس عام 1888، ولكون (باخ) يلفظ بالفرنسية (باك) اصبح اسم الشركة ( أوروزدي- باك)، التي افتتحت لها فروعا في أوروبا وافريقيا وآسيا، وكان من ضمنها العراق كما تؤكد المصادر التاريخية بحسب قول أبي صفاء لولده.
يكمل أبو صفاء حديثه على لسان ما جاء في مدونة الناصري بانه استلم رسالة من الكاتبة والشاعرة العراقية ( مي مظفر) تقول فيها: " حين تأسس أوروزدي باك في العشرينيات، اتخذ موقعه في ركن المنطقة، التي كانت تدعى بوقف (حيدر جلبي) عند بداية شارع المستنصر، على مقربة من حمام حيدر الشهير. (بالمناسبة "والحديث لكاتبتنا" حيدر جلبي جدي الأكبر، وفي تلك المرحلة من الأربعينيات وحتى وفاته في 1949 كان والدي المتولي عن الوقف، وبعد وفاته انتقلت إلى ابن خالته المحامي فاضل بابان).، وكان مؤجرا من الوقفية".