الغرب ونحن وشعارات حقوق الإنسان

آراء 2024/08/27
...

 د. عدي حسن مزعل

بعد مسيرة طويلة من الكفاح، تحقق للغرب ما سُمي بــــ (حقوق الإنسان)، فحمل شعلة هذه الحقوق والفكر الذي جاء بها إلى بقية بلدان العالم، بوصفه (أي الغرب) الأكثر تقدماً وتحضراً، لا على صعيد الحقوق والحريات وحسب، وإنما على الصعيد السياسي والاقتصادي والصناعي، فضلاً عن الثقافي نفسه
 في التاريخ الغربي الحديث ثمة محطات مهمة وحاسمة، منها صعود الطبقة البرجوازية، التي تمكنت بعد صراع طويل من هزيمة الطبقات القديمة (الأمراء والإقطاع). اعتنقت هذه الطبقة الفكر الليبرالي بوصفه أيديولوجيا انبثقت منها جملة من المفاهيم والأفكار حول الحقوق والحريات، وهي التي بشر بها فلاسفة عصر التنوير الأوروبي أمثال (جون لوك، جان جاك روسو، فولتير، مونتسكيو....الخ). وقد أصبحت أفكار هؤلاء فيما بعد دليلاً ومرشداً للطبقة البرجوازية، خاصة بعد الثورات الكبرى التي اندلعت في (بريطانيا وأمريكا وفرنسا)، وحصل أن ضُمنت مبادئ وأفكار هؤلاء الفلاسفة في التشريعات والقوانين، التي سنتها النظم السياسية آنذاك.
وهكذا، بعد مسيرة طويلة من الكفاح، تحقق للغرب ما سُمي بــــ (حقوق الإنسان)، فحمل شعلة هذه الحقوق والفكر الذي جاء بها إلى بقية بلدان العالم، بوصفه (أي الغرب) الأكثر تقدماً وتحضراً، لا على صعيد الحقوق والحريات وحسب، وإنما على الصعيد السياسي والاقتصادي والصناعي، فضلاً عن الثقافي نفسه. وقد مكنه هذا التقدم والقوة قبال التأخر والضعف على كافة الصعد في بقية أنحاء العالم (آسيا وأفريقيا)، من الزحف صوب هذه القارات تحت شعار تمدين وتطوير الدول التي تعاني من التخلف والانحطاط. وبعبارة موجزة: جاء الغرب وهو يحمل رسالته الحضارية إلى أمم العالم، الرسالة التي من شأنها إنقاذه من بؤسه وتأخره، وبالتالي تطويره لصالح اللحاق بركب الدول المتحضرة.  وتجليات هذا المعنى نجدها في الوجود الغربي في العالم العربي نهايات القرن الثامن عشر، وما تلاه. لقد كان هذا الوجود يُبرر ويقدم تحت ذريعة (المهمة الحضارية)، وإن المراد منه مصلحة شعوب المنطقة، إذ سيسهم حكمهم من طرف القوى الاستعمارية في تحديث حياتهم وانتشالهم من التخلف.....( نحن هنا من أجلكم ومن أجل الإسلام)، يقول نابليون إبان غزوه لمصر عام 1798، و(نحن هنا من أجلكم ومن أجل الغرب كله)، يقول آرثر جيمس بلفور، رئيس وزراء بريطانيا ووزير خارجيتها بعد احتلال مصر عام 1882، و(لم تأتِ جيوشنا إلى مدينتكم وأرضكم كغزاة أو أعداء ولكن كمحررين)، يقول ستانلي مود قائد الجيش البريطاني مخاطباً أهل بغداد التي احتلها عام 1917.  غير أن هذه الشعارات ليست سوى ذريعة تخفي أهداف كانت في عصر نابليون موصولة بالاستعمار المباشر، أما في عصرنا الحاضر، وبعد انقضاء عصر الاستعمار، فترتبط بالهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية. والمهم أن هذه الشعارات تنفعنا في فهم كيفية تعاطي قادة الغرب وساسته مع جمهورهم، فإذا كان الاستبداد مرفوض على صعيد الوعي الغربي في الداخل، فلا سبيل إلى ممارسته في الخارج إلا بتشويه الآخر (غير الغربي)، وذلك عبر نعته بشتى الأوصاف كــــ (التخلف، الهمجية، الخطر، وآخرها الإرهاب).
 وهذه السياسة في التعامل مع الشعوب الشرقية وغيرها هي إحدى وسائل النخب السياسية في الغرب. ذلك أن هذه النخب المنتصرة لقيم (الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان)، بوصفها قيم عليا تشكل أساس الحضارة الغربية الحديثة، تطبق في الخارج سياسة نقيضة لما تؤيده في الداخل، وما تشويه الشرق واحتقار شعوبه إن هي إلا وسيلة لتبرير تلك السياسة في الخارج. وذلك هو ما فعله نابليون ومن بعده بلفور وستانلي مود وصولاً إلى ساسة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
 لكن هذه الصورة الموجزة لكيفية تعاطي الغرب مع ملف حقوق الإنسان لا يعني أنها الصورة الوحيدة لهذا الغرب. فمن غير الأنصاف وغير الموضوعية أن نرى الغرب كل الغرب وكأنه نسخة واحدة ثابتة لا تتغير، وإن بلدانه لا تختلف في ما بينها سياسياً وثقافياً. فضلاً عن ضرورة التذكير بأن هذا الغرب هو الذي نذهب إليه للتعلم وطلب المعرفة، وهو الذي نستهلك منتجاته، وهو الذي نقرأ أعمال كبار كتابه وباحثيه، وأخيراً هو الذي نلجأ إليه هرباً من أوطاننا، حين يطغى الاستبداد فيها وتتحول إلى جحيم، فننعم إلى حد كبير بالحرية والأمان، ونحظى بالحقوق التي طالما حلمنا، ولا زلنا، بغرسها في أوطاننا، من(الحق في الحياة وفي حرية التعبير والمساواة أمام القانون وعدم التمييز). أقول ذلك: لأن تقديم صورة واحدة عن الغرب، وكأنه شيطان وشر خالص ومطلق لا خير فيه، أمرٌ غير صحيح بالمرة، يوقعنا بما وقع فيه من تضليل وزيف، بعض من كتبوا وتحدثوا عن غير الغربي من الغربيين أنفسهم. كذلك تقديم صورة واحدة ووحيدة عن الغرب بوصفه جنة عدن، والفضاء الرحب للإنسانية في أبهى صورها، والمدافع الوحيد عن الحضارة والمدنية، وان ثقافته وقوانينه يجب أن تدرس وتعمم، ويؤخذ بها من باقي الأمم والشعوب كحل للأزمات والمشكلات التي تواجهها، أمر لا يخلو من خداع وتضليل. فللغرب، كما لغيره من الأمم، صُور عدة، ومن الخطأ اختزاله في صورة واحدة والعمل على تعميمها.  ويبقى أن التدخل الغربي في شؤون غيره من الأمم تحت مسمى حقوق الإنسان، وإن كان يرمي إلى تعميم النموذج الليبرالي الغربي، وخاصة الأمريكي، لحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، فإنه ينبغي ألا ينسينا جملة مشكلات وأزمات حقيقية تعانيها مجتمعاتنا. وأقصد بذلك أن ازدواجية المعايير والتوظيف السياسي لهذه الحقوق من طرف الغرب، ينبغي ألا نجعله حجة وسببا في رفض كل ما يأتي منه، بوصفه دخيلاً وغير أصيل في تراثنا أو ثقافتنا، أو غزواً ثقافياً يرمي تمزيق هويتنا الحضارية، كما نقراً ونسمع اليوم. ذلك أن معظم النظم الاستبدادية، هي من تلجأ إلى هكذا ذرائع، وذلك من أجل رفض أية عملية إصلاح سياسي أو اقتصادي.  لذلك يقتضي الحال مراجعة نقدية لعموم مؤسساتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو ما يمكننا من وضع يدنا على كل ما يعيق إصلاحها، ويدفعنا إلى النهوض والتقدم إلى الأمام، بدلاً من تحميل الغرب دوماً وأبداً أزماتنا ومشكلاتنا. وإصلاح حقيقي إذا ما تحقق وفق ما يقتضيه واقعنا وحاجاته، واستجابة لمتطلبات سياقه التاريخي الراهن، بكل ما يحمله من أزمات ومشكلات، ومنها ملف حقوق الإنسان، الذي ما زال مؤجلاً في مجتمعاتنا، رغم ترديدنا لهذا المصطلح بكثرة في التلفاز وفي الندوات والصحف، فإن ذلك يدفع خطر كل تدخل خارجي، ويفقد الآخرين أياً كانوا، دولاً كبرى، قوى إقليمية، حجج التدخل في شؤوننا.