د.نازك بدير
لم يعد الأمر اليوم محصورًا بالحفاظ على الأمن بمفهومه التقليدي، بل لعلّ المعضلة الأساسيّة هي حماية الأمن السيبراني، إذ تُستخدَم تقنيات الذكاء الاصطناعي لشنّ هجمات سيبرانيّة شديدة التعقيد وصعبة الاكتشاف، وقد تتسبّب بعضها بتعطيل الأنظمة، أو تعديل البيانات، أو سرقتها، أو إتلافها، أو سرقة الطائرات.
أعلنت المقاومة في الخامس والعشرين من أغسطس الجاري أنّ مسيّراتها استهدفت قاعدة جليلوت، المركز الأساسي لوحدة 8200 الذراع السيبراني للكيان. تقع تلك القاعدة قرب تل أبيب، وتبعد 110 كلم عن الحدود اللبنانيّة-الفلسطينيّة، وتعدّ من أكبر القواعد المخصّصة للتنصّت في العالم. نقلت صحيفة نيويورك تايمز أنّ من أبرز “إنجازات” الوحدة 8200 تعطيل الدفاعات الجويّة السوريّة أثناء تنفيذها غارات على مفاعل نووي في محافظة دير الزور في العام 2007، وتمكّنها من اختراق شبكة “كاسبرسكي” الخاصّة، وإيقافها محاولة روسيّة لتفتيش الأجهزة حول العالم بحثًا عن برامج الاستخبارات الأميركيّة. كما طوّرت فيروس “ستوكسنت” الذي عطّل الأنظمة النوويّة الإيرانيّة في العام 2009.
ممّا تقدّم، تتّضحّ أهميّة استهداف المقاومة قاعدة جليلوت تحت مسمّى “عمليّة الأربعين”. أمّا ضرْبها في هذا التوقيت بالذات، في ذروة الاستنفار الإسرائيلي والأميركي جوًّا وبحرًا وبرًّا، فيؤكّد أنّ المقاومة لا تزال تمتلك قوّة الردع. نجحَت أسلحتها “المناسبة” في الوصول إلى عمق “الدماغ الاستخباراتي” المسؤول عن اغتيال القائد فؤاد شكر. وكان رئيس حكومة العدوّ قد وجّه ضربات قاسية إلى المقاومة عبر اغتياله شكر في ضاحية بيروت الجنوبيّة، واسماعيل هنيّة في طهران. وكذلك فعل في إبريل الماضي في دمشق مستغلًّا مرحلة التحضير للانتخابات الأميركيّة، معوّلًا حصوله على الدعم اللازم من حليفته واشنطن، إذا نجح بنشْر حرب موسّعة. يُذكَر في هذا الصدد أنّ نتنياهو في موقع لا يُحسَد عليه، فهو تحت ضغط من لدن مجلس الحرب، وأهالي المعتقلين، و”المستوطنين النازحين”، إضافة إلى خسائر الكيان الاقتصاديّة والماليّة...
مغامراته تلك غير المحسوبة العواقب تدفع المنطقة بأسرها إلى حافّة الهاوية، لا دول محور المقاومة فحسب. ذلك أنّ الأمن الإقليمي ملتحم ببعضه البعض. وأيّ خطأ قد يؤدّي إلى اندلاع حرب مفتوحة تقلب الموازين والمعادلات، وستغيّر تاليًا خرائط المنطقة والعالم.
أمام ثنائيّة تهوُّر نتنياهو ومجازفته في استعراض قوّته، وحكمة قادة محور المقاومة في كيفيّة الردّ، وتوقيته، ونوعه، سُلِخ عن الكيان حلم الأرض الموعودة. أضف إلى ذلك، زُلْزِلت شبكة الأمن السيبراني غبّ إصابتها في النخاع الشوكي. حتّى اليوم، أثبتت المقاومة قدرتها على ترسيخ الردع، والتصدّي لمخطّطات نتنياهو” الهولوكوستيّة” بأسلحتها الاستراتيجيّة والسياسيّة، لا بالأسلحة التي يريدها هو.
باحثة وكاتبة لبنانيّة