القراءة.. دروس الوعي الإنساني

منصة 2024/08/29
...

 أ.د. باسم الاعسم

يسرني أن افتتح درس القراءة بمقولة بليغة "للبرتومانغويل" مؤداها "أن القراءة هي ذلك النشاط الإبداعي الذي يجعلنا من كل الأوجه إنسانيين"، وهذا يعني أن الأنشطة الإبداعية وفي مقدمتها القراءة، ومن ثم الكتابة قادرة على أن ترتقي بوعي الإنسان وثقافته وسلوكه إلى أعلى المستويات، فتنتشله من صفة الحيوان الاجتماعي إلى صفة الإنسان الإبداعي المتحضر والمتنور فكراً وسلوكاً، وذلك بفعل القراءة، التي هي المنقذ الحقيقي من توسونامي الجهل والتخلف.

ومن أقصى حالات التجاهل عدم تأمل فعل الأمر الإلهي (إقرأ) في السورة الكريمة، الذي يراد به تحفيز مدركات الإنسان وعقله بالدرجة الأساس، لاستكشاف أسرار خلقه وما يحيط به، كيما يكون على بينة من أمره لا أن يبقى محض جثة هامدة كالحجارة الصماء.
وهذا أول الدروس السامية للقراءة، بوصفها فعلاً ادراكياً باعثاً على التفكير والتأمل، صوب بوصلة التغيير، للانتقال من السكون إلى الحركة، ومن البلادة إلى الريادة.
إن القراءة لكي تعم وتتحول إلى سلوك نافع، لابد لها من باعث، أو دافع يستفز داخلية الإنسان، فيوقظ مدركاته الحسية، والعقلية، والوجدانية، لأن انعدام الدافع النفسي يحول من دون ازدهار فعل القراءة، وتحوله من الفعل الذاتي إلى الفعل الموضوعي.
 وعلى وفق هذا المنظور تنتهج الأنظمة التربوية المتطورة بفعل القراءة أساليب علمية ممنهجة وتربوية لإشاعة القراءة، وإحالتها إلى درس حياتي، لتربية وتعليم الأجيال، بقصد تحصين ذواتهم وعقولهم من الصدأ، والجهل، بفعل هيمنة التخلف.
ومن المآسي المفجعة ارتفاع مؤشر الأمية، ونحن نحيا في عصر الحداثة والذكاء الاصطناعي، و "السوشيال ميديا" وتلك مفارقة مؤسية يفترض أن تؤرق المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية ذات العلاقة لردم تلك الهوة، بإعلان الثورة الثقافية العارمة، التي تستهدف إشاعة القراءة المنتجة، وليست الملائية، عبر طباعة المجلات والكتب المتنوعة وإعادة النظر في المناهج الدراسية وبخاصة طلبة المراحل الأولى، ومن ثم وضع مفردات علمية مدروسة وأساليب متطورة لدرس القراءة، والأعظم أن يعمم درس القراءة على المراحل كافة، لإعداد أجيال ذات عقول حجاجية، فالجهل قد ساد، لأن القراءة انخفضت مستوياتها، والقراء شحيحون، فزاد التصحر في الوعي، وأضحى المشهد القرائي شاحباً، من فرط العزوف عن القراءة لدى شرائح كثيرة، بحيث أصبحت القراءة فعلاً ذاتياً، وكان الأحرى أن تكون ظاهرة جماعية تسهم في تنمية وتائر العلم،  والمعرفة، والثقافة، والفن، عندئذ سنطمئن على مستقبل الأجيال، كمصداق للمقولة الجميلة: "العراقي يقرأ".
وأنا أقول: العراقي يقرأ، ويكتب، وينقد، لا تنقصه سوى الحث وتنوع فضاءات القراءة، وإصدار تشريعات وقرارات، ومسابقات، تعظم شأن القراءة، وتحث عليها بوصفها مصدراً ثقافياً راقياً للتنوير العقلي والسلوكي، وبعث الطاقة الإيجابية التي تزيح كل ما هو سلبي، وهذا زخم سيكولوجي فاعل من تجليات درس القراءة.
تعد القراءة من معالم المجتمعات المتحضرة الساعية باتجاه إحداث هزة توعوية في العقول الخاملة، لمجابهة متغيرات العصر، والذائقة، وتنمية قدرات الإنسان على الاكتشاف، وتذوق كل ما هو جميل، كالقراءة المتأملة، التي تجتث مواطن القبح في الحياة، والمجتمع، والتفكير.
كما أن القراءة تعزز ثقة الفرد بنفسه، وتوجه قدراته، وطاقاته التخيلية، باتجاه عمليات الخلق والابتكار، بما يرسخ هويته كذات مبدعة، وتلك من أخص فضائل القراءة، بكونها درساً يحاكي الآخر، بقصد تحفيز مدركاته، كوسيلة لتغييره نحو الوعي الاسمى، على صعيد التفكير، والسلوك معاً، فضلاً عن أن القراءة تمثل نقطة البدء لبلوغ عالم الادب، فهي الرصيد الثقافي، والمعرفي الذي يدعم توجهات الاديب، ويحصن نتاجه الإبداعي، وبفضل القراءة يغدو مثقفاً سامقاً، ومؤثراً.
ومما يؤسف له أن من عوامل انخفاض مستويات القراءة، اكتشاف جهاز "الموبايل" الذي يفترض أن يكون من الوسائل التقنية المحفزة، لإثراء القراءة، لكنه سرق الزمن من جراء الاستعمال الخاطئ من قبل عدد من الافراد، والمتمثل في البحث عن المحتويات الهابطة، وكذلك اعتماد مبدأ النقل الحرفي بدلاً من القراءة المتأملة للمقالات والأبحاث الاكاديمية خاصة، بقصد تحقيق النفع الذاتي، والمصالح الشخصية.
ينبغي على الدولة أن تدعم البنى الثقافية التحتية، مثل انشاء المكتبات العامة والخاصة، ورفدها بإصدارات المؤسسات الثقافية، واستحداث الجوائز، والبرامج ذات الحوافز المالية، ومعارض الكتب التي تشجع على القراءة، وإذا لم يحدث ذلك وسواه، فسوف تتفاقم ازمة القراءة، وتتسع فضاءات الجهل، وتلك كارثة اجتماعية، وثقافية، يصعب تفاديها، لاسيما وأن نسبة القراء قد تهاوت إلى أدنى المستويات وقد تصل إلى 3 بالمئة، باستثناء بعض المتعلمين، والأدباء، والكتاب، وتلك مأساة نكراء، في بلد له عمق حضاري، وعلم الشعوب
معنى القراءة والكتابة، وتلك هي المفارقة.
صحيح أن الازمات قد تفاقمت، والملهيات تزايدت، والقراءة تراجعت، لكن لا بديل عن القراءة، لمعرفة موطئ اقدامنا، وحقيقة وجودنا، ومقدار وعينا، بالمقارنة مع الاخر من دون أن نغالط انفسنا، مع يقيننا بأن السؤال والقراءة، هما الطريق المعبد، الذي يوصلنا إلى ما نصبو إليه، فلقد ذكرت الكاتبة نوال السعداوي قائلة: "على الإنسان أن يشعر بالإهانة عندما لا يقرأ، ولا يتعلم، ولا يتسائل، ولا يفكر،  ومع ذلك يعتقد أنه يفهم كل شيء".
وعلى الرغم من وفرة وسائل الإعلام، والاتصال الاجتماعي، وكذلك المنظمات المدنية، الثقافية، مثل أنا عراقي أنا اقرأ، وجمعية الثقافة للجميع، واتحادات الأدباء، لكنها محدودة التأثير بالقراء، وذلك نأمل أن تتسع فضاءات القراءة، لأنها تقود إلى المتعة الذهنية، والتجديد، والاكتشاف.