محمد {ص}.. دعوة إصلاح إنساني أبديَّة

ريبورتاج 2024/09/02
...

 وسام الفرطوسي

يوافق الثامن والعشرون من شهر صفر المظفر، ذكرى وفاة النبي الأعظم سيد الكائنات محمد (ص)، وبهذه المناسبة الأليمة نسلط الضوء على كلمات للإمام علي (ع) يصف بها النبي الأكرم (ص). روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا".
من النعم الإلهيّة الكبرى التي أفاضها الله سبحانه وتعالى على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ملازمته الدائمة والمستمرّة لرسول الله "ص" ومصاحبته له، فتربى في حجره، واتبعه اتباع الفصيل أَثَرَ أمه، ولم يفارقه منذ ولادته في جوف الكعبة، ونصره عند إظهار دعوته، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك، وكان أول المؤمنين به، وأول المصلين خلفه، إلى أنْ كان آخر المودعين له حين ارتفاعه إلى الله
تعالى.
لذا نراه في حديثه عن النبيّ "ص" يكشف لنا بوضوح عمق شخصيّته من جميع جوانبها الفرديّة والاجتماعيّة والرساليّة والجهاديّة والأخلاقيّة، لأنّه حديث العارف المطّلع على مكنونات الشخصيّة العظيمة للنبيّ
"ص".

ثواب زيارته (ص)
وصف الرسول الأكرم محمد "ص" زائريه في عدة أحاديث ومنها:
1 ـ قال رسول الله (ص): "من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة".
۲ـ قال رسول الله (ص): "من زارني في حياتي أو بعد موتي كان في جواري يوم القيامة".
۳ـ قال رسول الله (ص): "من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة".
4 قال رسول الله (ص): "من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إليَّ في حياتي، فإنْ لم تستطيعوا فابعثوا إليَّ السلام، فإنّه يبلغني".

رثاء علي "ع" للرسول "ص"
لقد كان علي "ع" أقرب الناس لرسول الله "ص"؛ فهو الذي كان إلى جانبه في لحظات وفاته، يقول: "ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإِنَّ رَأْسَه لَعَلَى صَدْرِي. ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُه فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى
وَجْهِي. ولَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه صلّى الله عليه وآله وسلّم والْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ، مَلأٌ يَهْبِطُ ومَلأٌ يَعْرُجُ، ومَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْه حَتَّى وَارَيْنَاه فِي
ضَرِيحِه".
وفي موضعٍ آخر يقول عليه السلام: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ. خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً. ولَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُوِن وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالكَمَدُ مُحالِفاً وَقَلَّا لَكَ ولَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ، ولَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أذْكُرْنَاَ عِنْدَ رَبِّكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ".
كما رثاه الإمام علي "ع" بقوله:
نفسي على زفراتِها محبوسةٌ  **  يا ليتَها خرجت معَ الزفراتِ
لا خير بعدَكَ في الحياةِ وإنَّما  **  أخشى مخافةً أن تطولَ حياتي
وقال (ع) أيضاً:
أمِن بعدِ تكفينِ النبيِّ ودفنِهِ  **  بأثوابِهِ أسى على هالكٍ ثوى
رُزئنا رسولُ اللهِ فينا فلن نرى  **  بذاكَ عديلاً ما حيينا من الورى

كما رثته فاطمة الزهراء (ع) بقولها:
قُل للمغيّبِ تحتَ أطباقِ الثرى  **  إن كُنتَ تسمعُ صرختِي وندائيا
صُبّت عليَّ مصائبٌ لو أنَّها ** صُبّت على الأيّامِ صرنَ لياليا
فلأجعلنَّ الحُزنَ بعدَكَ مُؤنسي  **  ولأجعلنَّ الدمعَ فيكَ وشاحيا
ماذا على مَن شمَّ تربةَ أحمدَ  **  ألّا يشمَّ مدى الزمانِ غواليا

المنبت الطيّب
أمّا المنبت الطيّب لرسول الله "ص" فيصفه الإمام علي بكلمات موجزة: "مُسْتَقَرُّه خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، ومَنْبِتُه أَشْرَفُ مَنْبِتٍ، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ، ومَمَاهِدِ السَّلَامَةِ".
فالنبيّ كان مستقرّه في الأصلاب الشامخة، وهو خير مستقر. ونبت في أشرف رحم مطهّرة، وأسرة النّبي "ص" هي أسرة الكرامة والسلامة من أنْ تدنّس بالتلوّث بأيّ رجسٍ من الأرجاس المعنويّة.
وفي خطبة أخرى قال الإمام علي "ع": "حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ الله سُبْحَانَه وتَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فَأَخْرَجَه مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وأَعَزِّ الأَرُومَاتِ ـ الأصول ـ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَه، وانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَه، عِتْرَتُه خَيْرُ الْعِتَرِ، وأُسْرَتُه خَيْرُ الأُسَرِ وشَجَرَتُه خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وبَسَقَتْ
فِي كَرَمٍ".
فالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من نسل إبراهيم عليه السلام، شيخ الأنبياء، وإليه تعودُ سلسلة آباء النبي، وهي أفضل أصل يعود إليه إنسان، ولا يرتبط ذلك بالآباء البعيدين بل إنّ أسرته التي ولد فيها، وهم بنو هاشم، خير أسرة.
وقد استعار لفظ المعدن والمنبت والمغرس لطينة النبوّة التي ولد منها النبي. ووجه الاستعارة أنّ تلك المادّة منشأ لمثله، كما أنّ الأرض معدن الجواهر ومغرس الشجر الطيّب.

في ظلّ الرعاية الإلهيّة
أمّا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في طفولته، فيصفه الإمام عليه السلام بأنّه "خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً"، ويصف عناية الله عزّ وجلّ به وهو طفل بقوله: "لَقَدْ قَرَنَ الله بِه صلّى الله عليه وآله وسلّم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه
ونَهَارَه".
فالعناية الإلهيّة بالأنبياء والرسل لا ترتبط بزمان بعثتهم، بل هي قبل ذلك؛ فقد شملت العناية الإلهيّة موسى الكليم عليه السلام منذ أنْ كان طفلاً، بما أُلهمت أمّه أنْ تلقيه في النهر وردّه الله إليها. وهذا النصّ من أمير المؤمنين يشهد على أنَّ النبي حتّى قبل بعثته كان محلّاً للعناية الإلهيّة بالتربية التامّة، ولذا لم يتمكّن أعداء رسول الله ممّن حارب دعوته أنْ يعيبَ على رسول الله بشيءٍ من مثالب الأخلاق قبل البعثة مع أنّه قد لبث فيهم أربعين سنة، يعيش بينهم كعيشتهم، ولكنّه امتاز عنهم بما وهبه الله من لطف.

البعثة النبويّة المباركة
تتعدّدُ النصوص في نهج البلاغة حول بعثة النبي وظروفها، فالنّبي بعث في قوم أبعد النّاس عن الحقّ يعيشون في ظلمات الجهل والضلال، يتقاتلون في ما بينهم، يقول الإمام علي "ع": "أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ، واعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ، وانْتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى، وظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا".
أمّا أداء الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم لهذه المهمّة فهو ما يذكره الإمام عليه السلام بقوله: "وقَبَضَ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ، فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ، ولَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلَّا وجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً".
يصف الإمام عليه السلام التحوّل الذي أوجده النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياة العرب آنذاك، بعد وصفه لحالهم قبل البعثة كما تقدّم ذكره بقوله: "إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً ولَا يَدَّعِي نُبُوَّةً، فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ واطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ".
وفي خطبة أخرى يقول: "دَفَنَ الله بِه الضَّغَائِنَ، وأَطْفَأَ بِه الثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِه إِخْوَاناً، وفَرَّقَ بِه أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِه الذِّلَّةَ، وأَذَلَّ بِه الْعِزَّةَ".
فثمار البعثة النبويّة كانت على المستويين الدنيوي والأخروي؛ فعلى المستوى الأخروي كانت الهداية الضامنة للفوز في الآخرة وعلى المستوى الدنيوي كانت العزّة والسيادة والسؤدد والحياة المليئة بالمحبّة والأخوّة.

شجاعة رسول الله "ص"
لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقود الحروب بنفسه، يدخل فيها كغيره من أصحابه، ويخطط للقتال، ويأمرهم بما يجب عليهم، وينهاههم عمّا يوجب هزيمتهم. وكانت شجاعة الكلّ دون شجاعة الرسول حتّى كان أصحابه يحتمون به عند اشتداد المعركة، فعن الإمام علي عليه السلام حديث: "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ
مِنْهُ".

الصفات الخُلقيّة
يكفي في الهداية إلى الصفات الخلقيّة لرسول الله ما وصفه به الله عزّ وجلّ في كتابه بكلمات موجزة: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: ٤]. ويصفه الإمام علي في خُلُقه: "أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفاً، من خالطه بمعرفة أحبّه، ومن رآه بديهة هابه". فمن يعاشر النّبي يشعر بالكرم النبوي، ويجد أنّه ألين الناس طبيعة، فهو يلين لمن يعيش معه، ويبسط كفّه بالكرم والعطاء.
وفي خطبة أخرى يصف الإمام "ع" تواضع النّبي "ص" في حياته اليوميّة، فيقول: "ولَقَدْ كَانَ صلّى الله عليه وآله وسلّم يَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ، ويَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، ويَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، ويَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، ويَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، ويُرْدِفُ خَلْفَهُ، ويَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: "يَا فُلَانَةُ ـ لإِحْدَى أَزْوَاجِهِ ـ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وزَخَارِفَهَا".

حقيقة الدنيا عند الرسول الأكرم
كان النبي "ص" أفضل خلق الله، فإنّ الدنيا كلّها طوع يديه ينال منها ما يريد، بل عرضت عليه الدنيا فأباها وذلك لأنّه يعرفها على حقيقتها. ويصف الإمام أمير المؤمنين الدنيا في عين رسول الله "ص" فيقول: "لقَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وصَغَّرَهَا، وأَهْوَنَ بِهَا وهَوَّنَهَا، وعَلِمَ أَنَّ اللهً زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً، وبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً. بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، ونَصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً، ودَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً، وخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً".
وفي خطبة أخرى يقول عليه السلام: "أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وعَلِمَ أَنَّ اللهً سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ورَسُولُهُ، وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ الله ورَسُولُهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ، ومُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ... فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، ولَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، ولَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ. وكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ".

الاقتداء برسول الله "ص"
إنّ فعل رسول الله "ص" فيه حثٌّ للناس كافّة على التأسّي به في نظرتهم إلى هذه الدنيا وما ينالونه منها. ولذا يحثّ الإمام في وصاياه على الاقتداء برسول الله في ذلك: "تَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صلّى الله عليه وآله وسلّم فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى. وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، والْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ. قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً، ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً.. ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ. فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ، فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ ـ واللَّهِ الْعَظِيمِ ـ بِالإِفْكِ الْعَظِيمِ، وإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهً قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ. فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، واقْتَصَّ أَثَرَهُ، ووَلَجَ مَوْلِجَهُ، وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ الله جَعَلَ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم عَلَماً لِلسَّاعَةِ، ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ. خَرَجَ منَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، ووَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً. لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ. فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وقَائِداً نَطَأُ
عَقِبَهُ".