نرمين المفتي
المدينة، أية مدينة، كأنها كائن حي، اذ تبدأ صغيرة وتكبر أو تتوسع، مع الفرق أن كل مرحلة عمرية لها تستمر لعقود وربما لقرون. تتوسع وتختلف مواد بناء مبانيها، وتوزيع أسواقها ومساجدها وكنائسها ومدارسها، وقد تختلف عمارتها، لكن دائما هناك خصوصية ما من عمارتها الأصلية تستمر، خاصة في المباني العامة للمحافظة على تاريخها وتراثها.
والإدارات التي تحترم تاريخ مدنها، تحافظ على المواقع التي تشكل صباها، إن كان العثور على شواخص معمارية من طفولتها مهمة صعبة، بسبب مرور قرون عدة ونوعية مواد البناء، التي تتأثر بعوامل المناخ والمياه الجوفية وغيرها من الاسباب.. ولو استخدمنا امثلة لهذه الإدارات التي تعرف قيمة الأجزاء القديمة من مدنها، سنشير إلى مدن عربية وأجنبية عدة، من بينها وليس للحصر مناطق السيدة زينب في القاهرة، وباب توما في دمشق، وروما القديمة تقسيم في إسطنبول، والمدينة المسيجة في باكو، وتحافظ هذه الإدارات في الوقت نفسه على المناطق الراقية في مدنها، والتي تتحول مع القديمة إلى مناطق سياحية مهمة. اذكر انني وجهت بنشر ملف عن الاحياء التي كانت راقية في بغداد حين كنت رئيسة تحرير مجلة الشبكة العراقية، وكتبت في مقدمتها أن الملف لا يدافع عن الطبقية، إنما عن مناطق بغداد واحيائها، وبدل أن نغير أحياءها الراقية، لا بد من الاهتمام بجميع أحيائها، خاصة من ناحية البنى التحتية لصيانة كرامة سكانها، إن القضاء على الطبقية لا يعني تخريب احياء المدينة، لان احد المسؤولين انتقد نشر الملف معتبرا اياه “دفاعا عن الطبقة”! على اية حال، نشرت وغيري عشرات وربما مئات المقالات، مطالبين بالمحافظة على المناطق التراثية القديمة، سواء في بغداد أو المحافظات، وكان قرار وزير الثقافة الأسبق الراحل د. عبد الأمير الحمداني في 2018 بتشكيل لجنة لحصر المباني التراثية والبدء بصيانتها وإدامتها، مهما، وان كان قد غادر الوزارة في 2019، فان مدير عام دائرة التراث الدكتور اياد كاظم أعلن في اذار 2020 عن حصر 5948 مبنى تراثيا في بغداد والمحافظات. قطعا أن زيادة السكان تتطلب السكن العمودي وتحديد مواقع الأسواق والبنى التحتية، ولكن ليس بالقضاء على تراث المدينة، الذي توثق عمارتها تاريخها، كما لا يعني أن يتمدد الاستثمار كالأرضة، ويقضي على أحياء قديمة أو متنزهات أو مساحات مهمة، بذريعة ايجاد حلول لمشكلة السكن. هنا، لا بد من اشارة إلى ان التراث المعماري لبغداد، مثلا، تعرض للعديد من الانتهاكات، وأذكر أنني حاورت المعاون الفني لأمين بغداد واذا لم تخوني الذاكرة في 1987 عن كيفية السماح لهدم مبان تراثية في شارع الرشيد؟ وكان جوابه بأنها تلك المباني كانت بعمارة عثمانية أو فيكتورية، وقلت له وإن كانت، فأنها جزء من تاريخ بغداد.. بهكذا عقلية يستمر التعامل مع تراث مدينة.
نشرت مواقع التواصل الاجتماعي قبل ايام صورا عن مستثمرين، يطالبون أصحاب المحال في الشورجة بإخلائها، إن المحافظة على المناطق القديمة للمدينة، تعني المحافظة على مبانيها وأسواقها وطابعها ومهامها، فبعد أن تحول شارع الرشيد بامتداده إلى موقع تراثي مشوه، بسبب الأبنية الحديثة، التي تمت الموافقة على انشائها، لوجود مسؤولين يعتقدون أن الصبغ الاخضر والطابوق يعنيان المحافظة على التراث، واذا صدقت الصور بتحويل الشورجة إلى استثمار، يعني أننا بعد أن فقدنا سوق الصفافير وشارع النهر، فإننا في طريقنا إلى أن نفقد رائحة بغداد أيضا.. إن عمل لجنة إعمار بغداد القديمة يستمر، ونأمل أن يقف بوجه الاستثمار الذي يعني الهدم، وأن يعمل يدا بيد مع الاستثمار السياحي، بمعنى الصيانة والإدامة والاستخدام السياحي. ولا بأس أن أتساءل مرة اخرى عن مساهمة الاستثمار في خزينة الدولة؟ فالمجمعات السكنية لم تقض على أزمة السكن، لأنها تحولت بدورها إلى استثمار للذين يقدرون على شراء وحداتها؟ سؤال ليس إلا! وتأكيد أن الشورجة والمناطق التي حولها جزءٌ مهمٌ من صبا بغداد، وان كانت سنوات الحصار قد أساءت إليها، لا بد من إعادتها كما كانت.