معاول

ثقافة شعبية 2024/09/05
...

كاظم غيلان 


تفرز التحولات الكبرى في حياة الشعوب والأمم العديد من الظواهر الإبداعية القيمة، مثلما تدرس ولربما تضع معالجات لظواهر الانحراف والتردي، فبدون بحث ودراسة الظواهر مجتمعة، تبقى الدراسات غير مكتملة ولن تجدي الأجيال القادمة نفعاً.

في حقبة الحصار التي شهدتها تسعينيات القرن الماضي، رصدت كمواطن عاش ذروة جحيمها العديد من الظواهر، لا سيما أنني كنت في قلب أحداث كثيرة.

رصدت انتعاش وقوة قصيدة النثر، التي كتبها العديد من الأصدقاء وبشكل نادر الشباب منهم، وكنت أعيش حيثيات ذلك التطور الثقافي بحكم عملي في مجمع الباب المعظم للطباعة والاستنساخ مع العديد من الأصدقاء الذين عاشوا هموم الثقافة، كالشاعرين أحمد الشيخ علي وكريم شغيدل وغيرهما.

الحقبة كانت قاسية موجعة ومضطربة، يقابل ذلك فعاليات غاية في السطحية والتردي، كالمهرجانات والفعاليات الشعرية والفنية، التي تعمل على تجميل وجه السلطة، التي اسهمت رعونة رأسها بمسببات ذلك الحصار.

في شعر العامية شاعت ظاهرة الكاسيت الصوتي الشعري الغنائي ولاقت أصداءً متباينة، وعلى ما أتذكر صدر كاسيت مشترك للشاعر (عريان السيد خلف)، والفنان (عبد فلك) ولاقى صدى طيبا، حتى أتذكر إن عقدت جلسة احتفاء ثقافي قيلت فيها آراء باركت تلك الخطوة. الأمر الذي استسهله البعض لا سيما أن دور التسجيلات هي الرابحة في كل الأحوال تبعا لرواج تلك الظاهرة، فصادف إن قامت إحدى تلك الدور لإصدار كاسيت لأحد المهرجين المحسوبين على شعر العامية، مليء بصراخ هستيري شعرا وغناءً، خاليا من حالة الحب، يقدح عدوانية وسذاجة لاقى تذمرا وانزعاجا كبيرين، وصادف إن حاورني احد العاملين في الصحافة وقتذاك، ليسألني عن ذلك المهرج وأجبت بصريح العبارة: انه معول لهدم الذائقة العراقية.

وجد البعض من الأصدقاء فرصة للاصطفاف مع هذا الرأي، وهنا حصل رد الفعل الذي لا يخلو من لغة يغلفها التهديد من حوار مع مجموعة من مرتزقة الشعر والصحافة آنذاك للرد على مجمل ما نشر من آراء أدانت ذلك القرقوز، الذي كان يحسب له ألف حساب وحساب لعلاقته بأولمبية ابن الرئيس وللأغنيات، التي كان يجيد صياغتها في امتداح قائده بوصفه (أبو الليثين).

اليوم تذكرت ذلك المشهد، لا أقول (ترحمت عليه) كما يفعلها البعض، فهل يعقل ان حقبة كتلك تستحق الرحمة، برغم مرارات الحاضر؟ لكنني وجدت المعاول وقد تكاثرت وتعددت أشكالها واغراضها، وها هي تهدم كل ما يمت للجمال بصلة، فالفضائيات ومحطات البث الاذاعي والسوشيال ميديا ومنظمات وروابط وجمعيات تحت مسميات الفن والشعر، تتبنى وترعى معاول الهدم، لا سيما تلك الضالعة منها بغسيل الأموال، وإلا فمن أين تأتي كل هذه المليارات لتمويل هكذا فعاليات تتبنى تعميم الهابط والمتدني شعرا وغناءا واستعراضات الأجساد النافرة، التي تثير شهوات الذين جاءت بهم الأقدار من قيعان الجهل، ليصبحوا بين أقل من ليلة وضحاها أسياد مجتمع ينهشه الفساد والخراب. وبما أن الرهان يبقى على كل ما هو أصيل تظل ذائقة الجمال في تحدياتها، فكم ضخت وكم أجهدت القنوات كلها في تسويق (البرتقالة)، التي تعفنت وطواها النسيان. 

لكن (حاسبينك) تعود مورقة بقوة.