ابراهيم العبادي
يلجأ الانسان إلى المقارنة بين ماضي بلاده وحاضرها كلما شعر ان هذا الحاضر لا يسير كما يتمنى أو كما ينبغي.
في بلادنا يسيطر التاريخ على الفكر الجمعي بشكل عام وتحضر الذاكرة السياسية خصوصا، بالحاح مدحا وقدحا وتوظيفا، الذاكرة السياسية هي سجل الأحداث والسلوكيات والأفكار، هي خزان ضخم لوثائق الحياة السياسية، لما كان يعمله ويمارسه أهل السلطة وآثارهم ونتائج ذلك على الحياة العامة، يستفاد من الذاكرة الوطنية في ترصين الممارسة السياسية والتعلم من التجارب، واكتساب الخبرات والاحتراز من تكرار الأخطاء وإعلاء شأن المواقف والقرارات والمناسبات ذات القيمة في حياة الشعوب، في العراق تعمل الذاكرة السياسية بشكل متحيز وانتقائي، تاريخنا السياسي لا يراكم خبرات ولا يناقش بموضوعية ولا يقرأ بميزان النقد، بل هو فصول ملغاة أو حوادث مستدعاة بحسب حاجة المتكلم وانتماءاته وتحيزاته، على سبيل المثال، من ذاق مرارات الحقبة البعثية وتداعياتها على الحياة العامة والخاصة، تسيطر على فكره صور الظلم والتعذيب والاعتقالات العشوائية وتفكيك العائلات والحروب والحصارات والفقر والتراجع على مختلف الصعد وتراه لا ينفك من الاشارة اليها والرد على من يسعى لتجميل ذلك الماضي القبيح وتقبيح الحاضر الأفضل نسبيا، لأنه في خصومة مع هذا
الحاضر.
المتبرمون من حاضر البلاد وازماتها والشامتون بالنظام السياسي يغلّبون صورا منتقاة من الماضي، ليدينوا الحاضر حتى لو لم يقصدوا تجميل الصور البائسة وتبرئة أنظمة تلك الحقبة، لكنهم يتحدثون عن القانون والنظام وغياب مظاهر الفساد العلني، التي يتداولها الاعلام حاليا وانخفاض مستويات الجرائم ووو ولايتذكرون الفصول المأساوية السوداء، التي عاشها العراقيون من الذين لا يشاكلونه الموقف، الفرق بين الموقفين ليس الفرق في زاوية النظر، إنما في رضاه أو عدم رضاه عن واقعه الراهن ومقدار انتفاعه من
ذلك.
استعمالات الذاكرة السياسية تجري وفقا لسياق من التذكر غير الموضوعي، تذكر انفعالي مريض أو كما يسميه الكاتب البحراني الدكتور نادر كاظم (امراض التذكر )، فاهداف التذكر تخضع لتوظيف سياسي أو أيديولوجي أو طائفي واع، احيانا لا يعي ولا يقصد المتذكر استعماله لذاكرته واستدعاءه الانتقائي لصور الماضي لدعم محاججاته ومجادلاته، اذ سرعان ما يتراجع عن (المدح)غير المقصود للماضي السياسي البائس لكنه يبررها ببؤس الحاضر الذي يراه غريبا عنه، انه لا يحتمل حديثا مفصلا عبر وسائل الاعلام عن الفساد الملياري والفضائحيات السياسية التي تجري، فيراها نمطين أنماط العبث والاستهتار الذي ينبغي ألّا يكون. غير أن وقائع الماضي المحجوب تفصيلا هي ما تجعله يرى الماضي افضل من الحاضر، ولو ظهرت له التفاصيل لأذعن لخطأ الاستعمال الانتقائي للذاكرة والتاريخ.
نتذكر أيضا ان المواطنين الروس البسطاء كانوا يقارنون في العشرية الاولى التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي( 1991- 2000 ) واثناء حكم بوريس يلتسين كانوا يقارنون بين حالة الفوضى والنهب واللا أمن والاضطراب والتضخم والفقر المدقع في قبال الغنى الفاحش للطبقة الجديدة الرأسمالية، وبين أحوالهم أيام الاشتراكية، ولم يتذكروا معسكرات الاعتقال والخوف وحفلات التعذيب وممنوعية النقد والحرية المستلبة وووو، هذا المثال وغيره يحكي عن طبيعة القراءة الانتقائية والاستعمال المبسط للذاكرة.
يجري هذا بشكل يومي في يومياتنا المترعة بالمهازل السياسية، ففيما كان المفترض أن ترتقي الممارسة السياسة والسلوك السياسي إلى مستوى توقع الجمهور بما يعيد لديه تنشيط واستنطاق الذاكرة السياسية بمنطق معقول، لتكون هذه الذاكرة في خدمة مشروع بناء الدولة وليس العكس، فنحن في خضم فوضى استعمال الذاكرة بما يدفع بعض الناس إلى تجميل القبيح وتقبيح المقبول أو الجيد، لان الذاكرة صارت لعبة سياسية وليست سجلا للاعتبار والفهم واكتساب الخبرات والاحتراز من تكرار المهازل وارتكاب الاخطاء الفاحشة. الاستدعاء الانتقائي لاحداث الماضي وصفحاته لا يساعد على التفكر والاعتبار والتخلق بأخلاقيات الممارسة السليمة للسلطة، وفق أسسها الدستورية واشتراطاتها الادارية والقانونية والأخلاقية والعرفية.
كنت أتابع حلقات الذاكرة السياسية لوزير الزراعة في نظام صدام كريم حسن رضا التميمي، ومروياته عن محنته سجينا مطرودا من الوزارة وحزب البعث ،وهو الحاصل على النياشين والاوسمة لخدماته الجليلة! في خدمة النظام، التميمي تحدث عن مهازل الادارة والحكم والعبودية والاستبداد الذي يلغي كرامة الوزير والمسؤول، لأنه نطق بكلمة خدشت سمعة أفرادا من عائلة رئيس النظام، كونهم هددوا الوزير المناضل، بالقتل إن نفذ امر الرئيس القائد بسحب رخصة استيلائهم على المال العام.
يتحدث البعض عن زمن جميل مضى في مقابل زمن قبيح معاش، ويقارن بين سرقات الماضي وسرقات الحاضر ليخفي انحيازه، لكنه لايتذكر من زمنه الجميل الموت الزؤام والعبودية والمهانة والذل والتاسيس الممنهج للخراب الكبير، عندما أهدرت كرامة الانسان وحريته وثقته بنفسه، نقد الحاضر لا ينبغي ان يكون مبررا للسكوت عن جرائم الماضي، والازدراء بحقبة البعث الدموية لا ينبغي أن يكون مسوغا للسكوت عن سوءات الحاضر، النقد اداة لتغيير الاسوأ إلى حال أقل سوءا، والذاكرة وفعل التذكر اداة للتاشير على الاخطاء البنيوية في كيان السلطة واخلاقياتها في
العراق.