مأساة فيدرا

ثقافة 2024/09/09
...

  ياسين طه حافظ

لا مفاجأة إذا كتبت خارج النسق وابتعدت عن منظومة النظريات والأفكار في قضية هي ما تزال تداور المعنى، وكأنها ستظل هكذا ولا تكتمل. هكذا تبدو لي القضية النسويَّة. غير مستجيبة لما قيل فيها وكتب.

فمن البداية، ونحن بعد في الغابة والحياة الصعبة الأولى، كان العضل القوي والصيد والحماية. وكانت الرقة وتيسير الحياة، وإن مشاركة، ولكن باختلاف الأهمية واختلاف الدور كانا يرسمان مشاركة وألفة. 

كان عيشاً وعملاً مشتركاً وإنسانيّة مشتركة تعادل الخشونةَ الرِقّة والنعومة، ويُعادل الصلابةَ الشعرُ والعذوبة الأنثويَّة. الفوارق موجودة واضحة، ولكنها مستساغة بلا تنظير ولا وصايا شديدة ونواهٍ. المهم أن العمل المشترك كان يكتمل برضا. 

يذكرني هذا بالرومان، بعد الانتصار والمجد كانت أمنيتهم ميتة جميلة. لماذا جميلة؟ للاستراحة، للاطمئنان للاستكانة مع ما يريح، مع الانسجام والسكينة الناعمة.. هل من صلة بين قولي الأول والثاني الذي عن الرومان؟، لك أن تجد الصِلة. لكن الشعر ظل وحتى يومنا رائقاً ممتعاً وجميل التهذيب وفي الأمكنة الظليلة الآمنة. والحياة بخشونتها وشراستها وأسلحتها، تتحكّم بالجميع. هكذا هو الواقع البدائي ظل حاكماً على المرأة كما على الفنون والفضيلة وعلى السعادة الفرديَّة التي تلوذ من مكان إلى مكان. 

المرأة، لم تستنكر على الرجل قوته البدنيَّة التي تصيد وتلوي وتنتصر وتُخضع، وهي ضمن ما يقع عليها الحكم وواجب الخضوع. ولكنها في التأمل النقي، والإنساني الخصيب بالمعنى، كانت تأسف لرجلها أن يكون فاتكاً أو مغتصباً أو سالب حق. إنّما هي تحتمل وجع الواقع كما يحتمل الآخرون. وكما تحتمله حيوانات ونباتات ومخلوقات الطبيعة الأخرى والتي تستبد بها القوة والغلظة. 

والآن سأنتقل انتقالة أخرى- فأنا أشرت أني سأكتب خارج النسق. فيدرا أو فيدر، بطلة مسرحية معروفة كتبها، أعاد صنعها الشاعر المسرحي راسين – ببلاغته وبأسلوبه الذي شغل بلدان أوروبا وزمنه. فيدرا أنموذج يمثل، يعبّر عمّا ذكرته أخيراً وهو اشفاق المرأة على الرجل من عيوبه، من خطاياه، من بؤسه في التعامل مع الحياة. قضية فيدرا مع أقرب، أعز الناس لها، أبيها الذي شاء قدره أن يكون ملوماً أو ملعوناً أو يحمل "مرمدة" آثامه لكنّه أبوها. تلك جرائم وآثام ونحن أحياء منتبهون. ربما عانت فيدر أقل لو لم تكن ابنة آلهة. فهي ابنة آلهة، وهي جديرة بالتقدير، وقد ارتكب أبوها ما يشين وأُدين!.

جدي هو أب الآلهة وسيدهم

السماء والكون بأسره ممتلئان يا أحفادي

أين أخبئ نفسي؟ فلأهرب في الليل الجهنمي

ولكن ماذا أقول؟

أبي يحمل المرمدة المشؤمة

يقال أن القدر وضعها بين يديه القاسيتين

ويحاكم مينوس في الجحيم البشرَ الشاحبين 

آه كم سيرتعد ظله المروّع

عندما سيرى ابنته واقفةً أمام عينيه 

مرغمة على الاعتراف بألف إثم مختلف لأبيها 

وبجرائم غير معروفة، ربما، في الجحيم؟

ماذا ستقول يا أبي عند هذا المشهد المرعب؟

الاخلاقيَّة العالية، المعنى الإنساني، الرقة أو هو اللُطف في فيدرا- المرأة- يأسف ويخجل ويلوم ويألم وهو يرى خطأً وخاطئاً!

كان الموت الذي تواجهه الضحية يصور في جداريات الرسامين. الضحايا المختلفات، على الجدران، وفي اللوحات تحن عليهن. العدد الكبير من لوحات الأسى لهن، ولحالات عذابهن أو استشهادهن، لو صورت في زمن واحد، لكان الفزع، الفزع الأكبر مما جرى!

هذه انتقالة أخرى، وقد تكون الأخيرة، كان الرومان يرونه موضوعاً جميلاً التأمل الرهيب لميديا، تأملها الصعب والوجع إذ أهانها جاسون وأرعبتها الضرورة التي وجدت نفسها ممتحنة بها، بضرورة قتل مرميروس وفيريس إذ وجدتهما، باغتتهما، يلعبان. لوحة ميديا هذه اشتراها قيصر ورآها جميلة – وردد اهل العصر سبب اعجابهم بها: أنها نظرة ميديا نظرتها الإنسانية أعجوبة: لننتبه لماذا كانت نظرة ميديا- المرأة- أعجوبة. كانت، طرف عينها ملتهب وفي الحاجب تظهر علامة الغضب، وفي العين الدامعة شفقة! هكذا هي المرأة هذا جمالها العظيم الذي لا يُرى، ومع غضبها من خصميها لم تنتصر الوحشيَّة فيها تنتقم من ولديهما. حضر الشعر وحضرت الإنسانيَّة وحضر الجمال والتهذيب المؤثر. ظلت في لوحة ماخوس، تتأمل. عين طاهرة نقية تتأمل، نظرتها الإنسانية الجليلة: جفن ملتهب غضبا وعين دامعة وشفقة! هل أعطتنا المرأة مثلاً رادعاً؟ أليس عملاً مخجلاً، وفكراً مخجلاً ان لا نفهمها ونقدرها حتى الآن؟ 

واضح الآن سبب كتابتي، سبب انتقالاتي من زمن لزمن وأني قصدت كشف ديمومة السوء، وأننا بالرغم من كل السنين التي عبرت، وبالرغم من التقدم الذي نفخر به والثقافة ومباهاتنا بها، ما نزال تعلق بنا أدران ومخجلات الأزمنة والكثير من التفكير السيئ وطرائقه الأسوأ. ما نزال نرحّب وندعو لما خلفته البشريّة وراءها وما نزال نرى العديد ينتصرون لما أسقطه الزمن ورفضه العقل وللحضارة عتاب مخجل على بعض من يتحدثون عنها في المجالس والمنتديات وبلا خجل، لا من الله ولا من الحضارة ولا من الحياة.