د. ضياء نافع.. من نعزي بك؟

منصة 2024/09/09
...

 د. علي حداد               


(1)

لم أتعرف على الراحل الدكتور ضياء نافع عياناً، أيام دراستي الأولية والعليا- منتصف السبعينيات وكل الثمانينيات- مع أن الإشادة باسمه كانت تتردد في فضاءات كلية الآداب بجامعة بغداد كونه رئيسا لقسم اللغات الأوروبية، واستاذا للأدب الروسي فيه. كما كانت دراساته ومقالاته وترجماته مما تهيأ لي – حينذاك- أن أقرأ بعضها منشوراً في الصحف والمجلات.

سيتأجل اللقاء به مدة تقارب الأربعين سنة، حين تهيأت لي فرصة الذهاب إلى روسيا -وتحديداً إلى مدينة (فارونيش)، حيث جامعتها التي قصدتها- مع زميلين آخرين في مهمة علمية أواخر سنة

 2013.

هاتفَ أحد الأساتذة العراقيين العاملين في تلك الجامعة الدكتور ضياء نافع مخبراً إياه أن ثلاثة من الأساتذة العراقيين قد أتوا إلى جامعة فارونيش، وأن من بينهم الدكتور علي حداد، فتهادى صوته فرحاً مرحباً، ومعلناً أنه سيأتي إلينا في وقت قريب، وهو ما كان فعلاً، فبعد يومين كان الدكتور ضياء نافع قد سبقنا وزوجته إلى مبنى الجامعة منتظراً قدومنا إليه، وما منعته انشغالاته الخاصة وسني عمره المثقلة بما تنوء به، ولا مسافة السبعمئة كيلومتر التي تبعد فيها مدينة سكناه عنّا، ولا درجات الحرارة المنخفضة التي كانت دون الصفر بثماني عشرة درجة أو أكثر.

قلت له ـ وهو يحتضنني بحميمية فياضة:

 ـ أستاذنا.. لقد كلفت نفسك مشقة ورهقاً، فرد وابتسامته تشرق على وجهه بحنو وضاء، وتملأ المكان دفئاً 

وطيبة. 

ـ لقد عرفت بوجودك وزميليك هنا، فغالبتني رغبة للقائك بعد أن كنت سمعت عنك وقرأت لك شيئاً مما تنشره. وقبل ذلك ومعه فإن قدومكم من العراق فرصة أتنسم منها ما يسدّ بعض حنيني 

إليه.

لم يبق معنا أكثر من نهار ذلك اليوم الذي تناسيت برده القارس ملتاذاً بدفء حضوره واكتناز معارفه، وطلاوة صوته، وهو يتولى الترجمة المباشرة لمحاضرتي التي ألقيتها عن اللغة العربية وآدابها على طلبة تلك الجامعة.

وقبل أن يغادرنا تواعدت معه على انجاز بعض المشاريع الثقافية، ومنها ترجمة عدد من الدراسات التي كتبت عن السياب، وأخرى في الأدب الشعبي العراقي الذي اشتغل هو عليه، وأرسل إلي ـ لاحقاًـ ما نشره من موضوعات تندرج في باب المقارنة بين الأدب الشعبي الروسي ومثيله 

العراقي. 

لم ينقطع تواصلي مع الدكتور ضياءـ من خلال الهاتف ـ في السنوات اللاحقة ، فكان يبعث لي بما يكتبه في المواقع الأدبية من قراءاته الرصينة في الأدب الروسي وسواه. ويبدي مشاعر نبله حول ما ينشر لي هنا أو هناك.

وحين أنشأ مؤسسة (نوار الثقافية) تخليداً لذكرى ولده الدكتور (نوار) الذي كان فقده المفاجئ صدمة قاسية الوقع 

عليه. 

اقترح أن نشتغل على فرص من التعاون بينها و(مؤسسة إيشان لدراسات الثقافة الشعبية) التي كنت أنشأتها، وهو ما رحنا نخطط له، وكان من أولى ثماره أن أشركني معه بمشروع ثقافي هو من الصميم في تعبيره عن نبل مقاصده، وانشداده إلى عراقيته، فقد تبنى فكرة إنجاز أربعة تماثيل لشخصيات عراقية بارزة في مجال اشتغالها، هم: الروائي (غائب طعمة فرمان، والفنان عزيز علي، والعلامة الأب أنستاس الكرملي، والشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي)، وتحمّل التكلفة المالية لها، ومنحني شرف التصرف باثنين منها، هما تمثال ملا عبود الكرخي، الذي أوصلته نيابة عنه إلى (المركز الثقافي البغدادي) ـ والآخر للأب أنستاس الكرملي الذي أصرّ على إهدائه 

لمؤسستنا. 

وقد أقيم لكلا التمثالين حفل تنصيب مناسب، ورفع الستار عنهما بحضور عدد كبير من المثقفين العراقيين. وجرى تصوير كلا الحفلين، وبعثت به إليه، فكانت فرحته غامرة، وفياضة بالشكر والامتنان، مع أنه الأولى بهما.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد خططنا لمشاريع لاحقة، غير أن رحيل زوجته، وما انتابه بعدها من حزن وانكسار روح وذبول جسد، كنت استشعره في صوته الذي بالكاد أسمعه ـ حين كنت أهاتفه خلال 

الأشهر اللاحقة ـ اتى بغير ما تشتهي سفن مسعانا. 

(2)

إيه دكتور ضياء: أيها الكبير المدّخر كنوزاً من العلم والإنسانية والانتماء إلى وطن منحته كل ما لديك، وما منحك ـ آخر سنيك ـ إلا تأشيرة مغادرة صماء على جواز سفر ناء بعراقيتك الأصيلة وانشدادك إليك الذي ظل معك أينما حللت.

نبحث عمّن نعزيه بفقدك فلا نجد ـ بعد أن غادرك من تحب إلى قبور تباعدت عنك ـ غير أن نعزي أنفسنا فيك، وأن نلوذ باليقين أنك غادرتنا جسداً، وتركت فينا من ودائعك ما يبقي ذكرك حياً لا يزول 

ولا يؤول.

فستنطق بحضورك المرسخ لخلوده مؤلفاتك التي تخطت العشرين كتاباً، ودراساتك ومقالاتك ومدوناتك في الأدب والأدب المقارن التي نافت على المئات، منشورة في الدوريات والمواقع العراقية وسواها، وجهدك الدؤوب في الترجمة الذي يوازي جهد مؤسسة رصينة. 

وستحدث عنك مكانتك الأكاديمية المفعمة بجدية المسعى وأريحيته يوم كنت تدريسياً بارز المكانة، ويوم صرت أول عميد لكلية اللغات ـ ولعلك آخرهم ـ جرى تنصيبه بالانتخاب لا التعيين من جهات عليا.

ستخبر عنك مكانة التبجيل التي نلتها عند المثقفين الروس، فمنحوك عضوية اتحادهم، لتكون العراقي الوحيد الذي نال

 ذلك.

سيتحدث عنك الركن العراقي الذي أوجدته في الطابق العلوي من مبنى جامعة فارونيش، ووضعت في صدره تمثال الجواهري، وخلفه تلك الجدارية الصادحة بحضارات العراق وتاريخه.

سيتحدث ذلك كله عنك مخبراً أنك واحد من رموزنا الثقافية الباذخة الحضور، وأنك كنت مفعم الروح والوجدان والوعي بعراقية نقية كنت تتنفسها لتطلقها مضامين تتجسد في الكتابة وفي تلك الشواخص التي ستخبر عنك كل حين.

فنم قرير العين في الأرض التي اخترتها ملاذاً لسنيك الأخيرة المثقلة بالأسى والفقد، ومرقداً لجسدك الذي انهكه تكالب الأقدار، ودع روحك ترحل إلى حيث العراق، لتلتاذ بمن تحب من الأماكن والأهل 

والأصحاب.