أديرة التبت وصعوبة الحفاظ على إرثها الرائع

بانوراما 2024/09/11
...

 تولسي رانيار

 ترجمة: بهاء سلمان

يقف “تاشي كونغا” أمام دير كاغ تشويدي، المشيّد داخل سلسلة جبل دهاولاغيري بمنطقة حدود النيبال مع التبت، حيث تتألّق عباءات الراهب القرمزية اللون في المطر، مع سرده لاسطورة قديمة لمعركة غورو رينبوتش مع أحد العفاريت.

ترجع الإسطورة إلى قرون خلت، حيث عاث العفريت خرابا في أحد أديرة التبت، ليطارده غورو رينبوتش جنوبا إلى مناطق موستانغ العليا داخل النيبال ودحره بأثر معركة ضارية، دافنا بقايا العفريت عبر سلسلة الجبل. كرّم أهالي موستانغ الأراضي المقدسة من خلال بناء أديرة فوق أجزاء جسد العفريت. “مباشرة فوق قلب العفريت، بنيت عاصمة لو مانثانغ سنة 1380،” كما يقل كونغا، مشيرا إلى الأزقة الضيّقة، والاديرة العتيقة، والأسطح المستوية المزيّنة ببيارق الصلاة لأحد آخر المدن الجدارية للعصور الوسطى.

وعلى مدى قرون، تزايدت أعداد قبيلة “لوباس”، وهم السكان الأصلين في هذه المنطقة النائية الواقعة على قمة هضبة التبت. الشيء الوحيد الذي بقي موجودا في الأديرة، المعروفة محليا بتسمية “غونباس”، تمثل الإرث الأغلى للمنطقة. لكن قبل عقدين تقريبا، بدأت الكثير من هذه الأديرة بالاندثار والانهيار إذ يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر.

يعزو الخبراء التداعي للتأثيرات القاسية لتغيّر المناخ، فتؤشر البيانات ارتفاعا واضحا بشدة العواصف وهطول الامطار على المنطقة. ويعمل هطول الأمطار على إشباع المباني الملتصقة بالأرض، لأن الرطوبة في التربة تنسحب باتجاه الأعلى نحو الجدران، مؤدية لتشقق السطوح.

يقول كانغا: “بالنسبة لنا نحن البوذيين، تمثل اللوحات والأعمال الفنية داخل الأديرة تجسيدا للآلهة انفسها، ولا يمكننا عبادة معبود نصف مدمّر. لم يتقدّم أي أحد لتصليحه؛ وتراثنا يتداعى بشكل بطيء، ونحن نعتقد بأن الآلهة كانت غاضبة.”


رموزٌ مقدَّسة

وتلقى الأديرة البوذية تبجيلا بوصفها أساسا للحضارة التبتية، شاغلة محورا حيويا بالنسبة للخليقة، وحماية لكل من التحف الملموسة والتقاليد الثقافية العميقة. لكن التغيرات الجوية غير المسبوقة تمثل تهديدا لإرثهم الثقافي، ويتحرّك المجتمع المحلي للحفاظ عليها عبر تقوية الجدران وسبك وصياغة التماثيل المعدنية واستعادة اللوحات.

خلال العقدين الماضيين، قام فريق محلي متدرّب من قبل متخصصين غربيين بالحفاظ على الفن باستبدال السطوح القديمة والمتشققة للمعابد بأخشاب مدوّرة وحجارة النهر وطين محلي لا يسمح بتسرّب الماء، واستعادوا اللوحات الجدارية والتماثيل والأعمدة المنحوتة لزخارف السقوف، مانحين هذه المعالم التذكارية؛ الموغلة في القدم؛ حياة جديدة.

يقود مشروع الاستعادة “لويجي فيني”، رئيس فريق الحفاظ على الفن في منطقة لو مانثانغ، مشيرا إلى أن تحويل مجتمع المزارعين إلى محافظين على الفن هو تحد بذاته، لأن غالبية أفراد مجتمع لابوس لم يمسكوا مطلقا قلما أو فرشاة رسم من قبل، واستلزم الأمر تدريبا مستغرقا قبل الشروع باستعادة لوحات تعود إلى القرن الخامس عشر.

يقول فيني: “بيد أن كل شيء سار بنجاح. كان زوار موستانغ من السياح مولعين بالشؤون الدينية، بالتالي شعرنا بضرورة الحفاظ على هذه التحف الفنية المقدسة، ليس فقط بسبب أهميتها التاريخية، لكن أيضا لادامة مصادر عيش الناس هنا.”

وصل عدد أفراد الفريق إلى 45 شخصا، بعدما كان عشرة في البداية، غالبيتهم من النساء، رغم وجود رفض أولي لقبول أية إمرأة ضمن المجموعة؛ فطبقا للتقاليد المحلية، يحظر على النساء لمس الحاجيات المقدسة. ومع ذلك، ساهمت النساء بمشروع استعادة لو مانثانغ. يقول فيني: “استغرق الأمر سنوات من الحوارات والمفاوضات مع الرهبان والسكان المحليين، ونجحنا بضم نساء المنطقة لفريق الحفاظ على اللوحات

 الجدارية.”


تغييرٌ جذري

تقليديا، تقع على النساء مسؤولية طهو الطعام والتنظيف وحلب الحيوانات وصناعة الزبد وجمع روث حيوانات “الياك” لاستخدامها كوقود. وإعتادت “تاشي وانغمو”، 40 عاما، على قضاء وقتها ترعى الحيوانات، وجمع الأعشاب وبيعها، والكثير من الأعمال الغريبة، لكنها لم تحقق دخلا يعتد به. وعندما تهيأت أمامها الفرصة لمتابعة تدريب جديد وكسب أجر يومي ضمن مشروع الاستعادة، سارعت بالعمل. تقول تاشي: “مكّن الشروع العديد من النساء على توسع مهماتهن ومهاراتهن، ووجدن فرصا

جديدة.”

وتقول “دولما تسيرنغ”، 42 عاما، بأنّها لم تساهم فقط لأجل تعلّم الفن أو صقل مهارات الرسم، بل بالمساهمة في استعادة الدير، لأنها ستكسب ميزة معنوية وتشارك بترقية البوذية التبتية عبر عملها. “بمجرّد مقارنتك بين الخطوط العريضة المتلاشية للآلهة وبين التعبيرات النابضة بالحياة للأشكال المستعاد حيويتها، ستدرك الحجم الهائل لجهود أي شخص كان. لقد رفع المشروع من القيمة الثقافية للو مانثانغ؛ ونحن كنسوة، تمكّنا من لعب دور.”

لكن المجتمع ما زال يواجه التحديات وسط خضم انقضاض التغيّر المناخي، فجبال الهلايا معرّضة بشكل خاص لارتفاع درجات الحرارة والتاثيرات المناخية، فحينما يحصل هطول للمطر، يكون التدفّق بغزارة شديدة، لكن الجفاف لمدة طويلة صار أمرا شائعا كذلك. وخلال العام الماضي، رفعت أمطار غزيرة مناسيب المياه للعديد من الأنهر والجداول الصغيرة في منطقة موستانغ، متسببة بأضرار فيضانية هائلة للقرى

المجاورة.

بي بي سي البريطانية