سلام ابراهيم*
الشاعر لا يني يكرر مأزق الإنسان في مجتمعات مغلقة القيم والأعراف.. مجتمعات تختزن في ذاكرتها وأحلامها الحرية كخيال مستحيل.. فتتغنى بها في الأغاني والقصائد والحكايات والقص الشفهي كمعادل للواقع المجافي لتلك الأحلام والمعتاد على القمع والخراب. من يقول إن الخراب العراقي جاء مع صدام يجافي الحقائق التاريخية، فالخراب يكمن أولاً في تكوين الفرد العراقي المبني في منظومة قيم قامعة.. يكمن في آلية شغلها المحدد طبيعة التعامل مع الطفل والمرأة والعلاقات بين المجموعات البشرية المختلفة.
المجتمع العراقي من المجتمعات التي تغرّب "من الاغتراب" بشرها منذُ الطفولة. علي الشباني من الشعراء العراقيين القلائل، الذين تنبهوا لطبيعة المجتمع العراقي هذه، فكتب قصيدة أسماها "بيان للزمن المذبوح" افتتحها ببيت يُجَسِدْ ما ذهبتُ إليه في السطور السابقة، وهو يعلن غربة العراقي منذ أول
النشأة:
مخطوفْ..
عمري من الزغرْ.. مخطوفْ
ومع توالي الأيام والإنسان الواعي يشب في خضم تلك البيئة فَيُثْقَل بالهمِ:
كبرْ بيّ الدربْ والظيم بيَّ يشوفْ
ويتعمق هذا الاغتراب مع تقدم العمر، حتى يعود هو علامة وجود العراقي الوحيدة وكأن الغربة قدره المكتوب:
تَرِسْ دمي الصوتْ يندهني.. وأظل
كل العمر مخطوف
وفي المسافةٍ بين الطفولةِ والشباب والوعي بالواقع العراقي الذي لم يشهد لحظة سلامٍ طويلةٍ في تاريخه المعاصر، والسلطات تتناوب على إذلال مواطنها بهذا الشكل أو ذاك نجد الشباني يجسد ذاك التعب والخواء من المدرسة والعائلة والسلطات والمؤسسة الزوجية:
مَذْبوحْ الوكتْ مذبوح
يا روحي وبعد بيچ المذلة تنوح
محفورة المدينة بروحي سكته.. وليلْ
يلبسني التعبْ والليلْ
بچه بدمي العراقْ وترسْ بيَّ الليلْ
هذه الذات المغتربة هي الصوت السري المكتوم لكل عراقي مهضوم، لا يستطيع القول خوفاً من هول القيم والسلطات، يغور الشباني في عمقِ العراقي الصامت، والحالم في صمتهِ بالفعلِ المستحيلِ لِقَلب أوضاع ابن جلدته وتقريبه من الوضع البشري المعقول فيما توصل إليه بني البشر في أنظمة أخرى في بقع
أخرى:
اذبحْ سكتة أيامي، يطگـ ميّة نبعْ بالروحْ
يلْعَبْ نبعْ ويه الروحْ..
ويذبني بدربكمْ صفْ عشگ وأزهارْ
أَنْبِتْ للحِزنْ أشجارْ
لكن الوعي يجعل الصوت الشعري يستقرئ أولئك الأبطال الذين جهروا بالحقيقة، وقدموا دمهم قرباناً للفجر العراقي المستحيل في المنظور القريب، المقطع التالي يرسم أمامي حشداً من الأصدقاءِ الذين ذبحوا في المعتقلات وقبروا في مقابر سرية. حشدٌ نبيلٌ عاشَ معنا "أنا والشباني" سبعينيات القرن الماضي. حشدٌ من الشبان اليساريين المندفعينَ نحو الحلمِ بكلِ عنفوان، قاموا ببسالةٍ نادرةٍ إلى حدود فناء الجسد، أعداد بعض الأسماء من أصدقائنا المشتركين؛ أخي الرسام كفاح إبراهيم، حازم الصمياني، صلاح مهدي الصياح، كريم ناصر، علي عبد الباقي البناء وأخرين.
بيان الشباني لذلك الزمن المذبوح المكتوب في أوائل سبعينيات القرن الماضي يتنبأ بالمصير التراجيدي لأصدقائنا المفقودين والذين لم يعثر عليهم حتى الآن في مقابر "صدام حسن" الجماعية بعد زوال سلطته:
ذبحوني نذر عَ الماي
مشه دمي جسرْ عَ الماي
كتبوني على ثيابْ النِثايه دموعْ
رسموني بجرايدهم حزنْ ممنوعْ
يفتتح الشباني مقطع القصيدة الرابع والأخير ببيان هو صوت السلطة السياسية والاجتماعية، أي سلطة النظام السياسي والأعراف وفيها يحدد كل ما ذهبتُ إليه في التحليلِ. كون هذه السلطات معادية لكل شيء يُشَمْ منهُ رائحة الحرية:
بيان: يمنع ما يلي:
الشعر الشعبي.. الخوف
التسكع أخر الليل
الحب، والصداقات
بعد تعداد الممنوعات يهب بصرخةٍ عاصفةٍ:
لا.. بوجه السلطانْ أصيحنْ لا..
سبعْ مراتْ
وأغني.. للفرحْ.. والناسْ..
والحريه تالي الليلْ
والحبْ
والصداقاتْ
سبع مراتْ
أعاند للشعرْ
والثورة.. واللذاتْ
عشر مراتْ
"الشباني" شديد الوضوح في دعوته المستحيلة في البيئة العراقية. وأنا أحاور قصيدته في زمنها المفتوح وقتها أي قبل ثلاثين عاماً أفكرُ بما آل إليه الحال العراقي من خراب الآن. "الشباني" كان صريحاً. ودعوته وقت كتابة القصيدة تحرق الأزمنة لتصل إلى ما وصلت إليه مجتمعات بشرية من حضارة، في إسكندنافيا مثلا حيث كل ما صرخ به الشباني في قصيدتهِ وجدتهُ لَمسَ اليد هنا حيث كل شيء مباح إلا كرامة الإنسان. وهذا ما لست بصدده، لكن ما أردت الوصول إليه هو أن الحقوق الإنسانية في البيئة المغلقة تنأى وتعود حلماً مستحيلاً، المشاعر تتضخم وتتجلى لتقترب من التصوف فتسكن المخيلة وتتحول عند الشاعر الموهوب إلى غزل من ذهب الكلام الذي قد
لا يتكرر.
وهنا يكمن سر العديد من شطح قصيدة الشباني المجنونة وهي تنشغل بثيمات إنسانية وفلسفية مطلقة شديدة الالتصاق بروح الإنسان وهو يقف عارياً أمام مرآة نفسه. قصائد الشباني تحلم في مجتمعات حرة تبدو حلماً بعيداً للعراقي، لكن من يعيش في شمال الكرة الأرضية وفي إسكندنافيا تحديداً يدرك أن حلم قصيدة الشباني متجسد في نمط النظام الاجتماعي والسياسي السائد
الآن.
قد أكون ذهبت بعيداً عن عالم قصيدة "علي الشباني" لكن هذا الاستطراد يلقي ضوءًا على ما كانت تحمله قصيدته من معرفة بما وصلت إليه الإنسانية من نظم اجتماعية راقية.
* روائي عراقي