قرار الحرّية في {حديث نسائي}

منصة 2024/09/12
...

 وداد سلوم


يخيل لنا من عنوان الفيلم «حديث النساء» أنه سيطرح قضيَّة المرأة وتفاصيل معاناتها،  لكنه في الحقيقة يتجاوز هذا الطرح ببساطة، فقد صار واضحاً كل ما تتعرض له المرأة  في الواقع سواء العنف أو الاغتصاب والحرمان من الحقوق في التعليم والتواصل والقدرة على الاختيار وحريتها كإنسان مستقل له مشاعره وأفكاره وأحلامه. فالفيلم يتجاوز كل هذه الحالات وينتقل لمرحلة ثانية من توصيف الواقع، وهو تصوير رد فعل النساء عليه أن أتيحت لهن الفرصة للتعبير واِتخاذ موقف على خلفية هذا الواقع الذي يتم عرضه من خلال النقاشات وتوصيفه بدقة والخيارات التي يمكن أن تطرح أمامهن، وكيف سيقعن فريسة للتناقضات والصراع حول هذه الخيارات.  ويصور الفيلم النقاش الدائر بين مجموعة نساء يتعرضن للاعتداء بشكل مستمر وما يدور في ذهن كل منهن من حلول ومخاوف ذاتية ومن الآخر، إذ أن فكرة العقاب الإلهي واِرجاع الاعتداء إلى فعل الشيطان وأتباعه تسيطر بشكل عام.   

تدور الأحداث في مستعمرة قد تكون متخيلة أو حقيقية في الريف المغلق على ذاته والمنعزلة عن الحضارة دون تحديد مكان ما، فالفكرة عموما تحدث في كل مكان أيضا وتفاصيل الاعتداءات غير مهمة، إذ تحدث بشكل مستمر.  يبدأ الفيلم بسرد إحدى الأمهات لابنتها ما حدث هناك، تقول لها: «تنتهي هذه القصة قبل ولادتك». كانت النسوة سجينات في فضاء المستعمرة ضمن هذا الواقع الغريب والذي يكتفي الفيلم بالإشارة اليه للمرور إلى طبيعة النقاش الدائر وتصرف النسوة بعد أن كشفنّ أن الاعتداءات من تدبير الرجال المتنفذين بذريعة دينيَّة واضحة، وكل ما يحدث لهن غالبا وهن نائمات وتحت التخدير، وفي الصباح يستيقظنّ والكدمات على أجسادهن، وهن ينزفنّ ثم يحملن دون أن يعرفن الفاعل. وكانت الفكرة الشائعة أن هذا من فعل الشيطان وعقاب الهي لأنهن خاطئات. إلى أن تمسك إحدى النساء بالرجل المعتدي في إحدى المرات وتتعرف عليه وتحاول قتله ويعترف على رفاقه المعتدين.

تمسك الشرطة بهم. وتسقط الفكرة التي كانت قد غرزت بذهن النساء ويدركن أنهن ضحايا المعتدين الذين سيخرجون بكفالة قريبا ليعودوا إلى عقابهن بالفعل ذاته، وربما بشكل أقسى انتقاما. 

من هنا اجتمعت النساء للنقاش في الخيارات المطروحة وإيجاد حل، وهو ما جعل الفيلم بعنوان «حديث النساء» والمأخوذ عن رواية «نساء يتحدثن» للكاتبة الكندية  ميريام توريز.

يبدأ النقاش أولا حول ما يمكن فعله ولتعبر كل امرأة عن رأيها، يخترن التصويت الذي لم يمارسنه قبل ذلك، ولأنهن لا يعرفن القراءة والكتابة يقمن بوضع لائحة عليها ثلاث خيارات على شكل رسوم: الأول الفرار، والثاني الرحيل الجماعي المنظم، والثالث البقاء والتحدي والمقاومة. يتم التصويت بوضع إشارة × على الخيار المطلوب، لكن التصويت لا ينتهي  إلى حل، فيخترن لاتخاذ القرار ممثلات عنهن يجتمعن في مستودع ويستدعين المعلم لكتابة وتدوين محضر الاجتماع  والسؤال لماذا طالما أنهن لا يعرفن القراءة والكتابة الجواب لتوثيق ذلك وتركه للأجيال القادمة لتعرف حقيقة ما جرى. تدور النقاشات فتكشف النساء عما يجول في خاطرهن من تجارب وأفكار ويعترفن بمكنوناتهن في حديث حميمي صادق يتصادمن فيه ويصرخن ويبكين معبرات عن الألم والذكريات السيئة والمخاوف والهواجس والأمراض يقطع النقاش حضور زوج إحداهن من المدينة، لأنه يريد اِحضار الكفالة لرفاقه وتدرك النساء أن الوقت ليس في صالحهن فيقررن الخروج المنظم من المستعمرة للعيش في مكان آخر بعيدا عن هذه المنظومة القائمة، في محاولة لامتلاك حريتهن وتقرير مصيرهن.  مستبعدات البقاء والمواجهة أولا، لأن التجربة أثبتت عدم قدرتهن الجسدية لمواجهة الأزواج، وثانيا والأهم: الفكرة التي نوقشت في أن الرجال أيضا ضحية الواقع الفاسد الذي يديره ذوو النفوذ بأفكاره للسيطرة وتدفع الرجل يمارس العنف على المرأة. تم التصوير في بيئة ريفيَّة تناسب جو الفيلم كمستعمرة، وكان لباس النساء والأطفال والرجال يوحي بزمن قديم غير محدد، وهو لعبة ذكيّة للخلاص من فكرة الزمان والمكان والاكتفاء بأفكار عامة تخص كل زمان ومكان مع بعض التعديلات. فالمهم هو الانتقال الذي عاشته النساء من الاستسلام إلى المواجهة واتخاذ القرار وتنفيذه. 

تخرج نساء المستعمرة في مشهد مهيب وهن يرحلن إلى مكان آخر بعيدا عن العنف والخداع.

لابد من الإشارة إلى أن معلم المدرسة كان مسانداً لهن، فهو ابن امرأة فرت من المستعمرة ذاتها لرفضها الاستمرار بالخضوع للاعتداء، ولهذا حمل التعاطف والتأثر من حكاية أمه كما ان المعرفة والعلم يجعل الذهن منفتحا على الحقائق وعلى حياة أخرى. قام الشاب بتعليمهن الاستدلال على الجهات والأرقام محاولا المساعدة قدر الإمكان.

قدم الفيلم فكرة مهمة أيضا وهي مشاركة النساء بالمسؤولية عن هذه الأفكار الظالمة حين يقمن بتربية اطفالهن الذكور دون الانتباه لدور ذلك في الاستمرار بإنتاج العنف. وتحرص النساء على مرافقة أطفالهم الذكور لهن تحت سن معينة، إذ أن مشاعر الأمومة غالبة ولعلها تكون علاقة جديدة تتجاوز أفكار الماضي ومعاناته.

الفيلم يضع يده على جرح النساء وهي لحظة الضعف حين اتخاذ  القرار المصيري والصراع الذي تعيشه كل امرأة في داخلها تجاه واقع ترفضه. ومع بنات جنسها وكيف تتبادل الافكار والمعارف لتصل إلى قرار.

عند نقاش النساء في المستودع مرت لحظات ضعف وانهيار وغناء وضحك تقول الساردة في خلفية الفيلم: «أحياناً أتخيل أنهن يضحكنّ  بقدر ما يردن البكاء».

كان مشهد تصوير الذعر الذي تعيشه كل امرأة حين تستيقظ وهي تنزف أو تكتشف كدمات جسدها مؤثراً جداً ومثيراً للتعاطف، بينما الفتاة التي قررت البكم منذ تعرضها للاعتداء تخرج عن صمتها، وتتكلم وتشارك قي مسيرة النساء. في رمزية الخروج من الاستسلام إلى الفعل.