الأستاذ الذي لم يحصل طوال مسيرته الفنيَّة على جائزة واحدة

منصة 2024/09/16
...

 أ. د. حسين علي هارف 

 «فنان بدرجة إنسان.. إنسان بدرجة فنان.. فنان بدرجة أستاذ»، وهنا يأتي السؤال: لماذا منحنا فؤاد المهندس لقب «الاستاذ»؟ عفوا! اسمحوا لي أن أعيد صياغة السؤال ليكون: لماذا انتزع فؤاد المهندس لقب الاستاذ منا؟ لم يطل منا ذلك! لم يطلب من أحد قطعاً! لكنه عمل على ذلك حتماً.. وبعد التحري عن من أطلق لقب الاستاذ على فؤاد المهندس وجدنا تأكيدا من الناقد طارق الشناوي أن كلمة «الاستاذ» ارتبطت بفؤاد المهندس من الوسط الفني نفسه، أصدقاؤه وزملاؤه هم من وصفوه بالأستاذ تقديراً لمكانته العالية التي يعترف بها كل الفنانين لا نجوم الكوميديا فحسب. 

ويوضح الشناوي أنّ لقب الاستاذ يعني أنّ تكون نموذجا يحتذى به، أن تكون محترفا ومعطاء، وكل هذه الصفات حملتها شخصيّة المهندس «الاستاذ». 

كلمة «الاستاذ» أعجمية دخيلة على اللغة العربية، لأنّ السين والذال لا يجتمعان في اللغة العربية، لكنّ معناها الذي تكرّس لاحقاً هو «الماهر بالشيء العظيم، والمُتقن له».

أساطين اللغة كانوا قد ذكروا أنه لا يستحق أن يلقّب بها إلا من جمع «12» عِلماً منها «النحو، الصرف، البيان، البديع، المعاني، الآداب، المنطق، الكلام، الهيئة، أصول الفقه، والتفسير والحديث».

فهل استحق فؤاد المهندس لقب الاستاذ وفق هذا المعيار؟

لقد جمع المهندس وبمهارة بين «الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح» بين «التمثيل والكتابة والإخراج» بين «الغناء والرقص والإضحاك» بين اعداد البرامج و تقديمها في الإذاعة والتلفزيون.

كان إداريا ناجحا لفرقته المسرحية.. وكان منتجاً ناجحا! وكان فنانا كوميديا من طراز رفيع فتميز بأسلوبه الخاص الذي تحول إلى مدرسة في الكوميديا! وكان ممثلا اذاعياً وتلفزيونياً وسينمائيا ومسرحياً، إلى جانب أنه مارس الإخراج المسرحي فأخرج ثلاث مسرحيات.

كلمة «الاستاذ» استخدمتها العامة في مرحلة ما على مؤدّب الصغار. وكان المهندس «عمو فؤاد» من بين من أجاد مخاطبة الصغار وامتاعهم والترفيه عنهم عبر الفنّ الممتع، بل كان من أكثر الفنانين ميلا إلى زج الأطفال والطفولة في أعماله الفنية لاسيما المسرحية «هالة حبيبتي إنموذجا».

إن علاقة الاستاذ المهندس بالطفولة بوصفها مادة فنية لأعماله وفئة مستهدفة، وعنصرا ادائياً، تعضّد أُستاذيته وشرعية هذا اللقب واحقيته فيه. والشواهد كثيرة، الأغاني التي رددها الأطفال لسنوات «عيد ميلاد ابو الفاصاد، رايح اجيب الديل من ديلو/ التي غناها في مسرحية أنا فين وانتي فين» إلى جانب ما غناه في مسرحية هالة حبيبتي التي زجّ بها عدد غير قليل من الأطفال الموهوبين، بل وقد اختار الطفلة رانيا عاطف لتشاركه بطولة المسرحية.

أصل كلمة «استاذ» فارسيّ، كما اسلفنا وتعني من بين ما تعنيه، كما ذكرنا الماهر بالشيء.. والمعلم، وهي تقرأ بالذال المهملة، يُقال «أُستا» أو «اسطى» ثم تطورت إلى معلم الصبيان ومربي الملوك.

ويُطلق لقب الاستاذ على المعلم، من يمارس التعليم - تعليم علم أو فن - وقد تلبّس المهندس دور المعلم في برامجه التعليمية التي تحول فيها جمهوره الإذاعي والتلفزيوني إلى «تلامذة وطلبة» يتلقون المعرفة والخبرة والتجربة والنُصح، وقد تحول «الاستوديو الإذاعي والتلفزيوني» إلى «صف دراسي» مفتوح وكبير وواسع. ولا يخضع إلى صرامة المعلم والتعليم والبيئة التعليمية العربية «التقليدية».

ومن المعاني الأخرى للـ «الاستاذ» الماهر في صناعةٍ يعلّمها غيره.. وقد كان المهندس معطاءً وكريما في نقل مهاراته وأسلوبه الكوميدي مثلما كان بارعا في رعاية ممثلين كوميديا عملوا معه وتدربوا على يديه «يكفي عادل أمام مثالا إلى جانب أحمد راتب وشريهان وسناء يونس». 

وفي هذا الصدد يردد الفنان الكبير عادل أمام كلمة «الاستاذ» و «استاذي» في لقاءاته التلفزيونية عند ذكر الفنان فؤاد المهندس، مثلما يصف المهندس عادل إمام بـ «تلميذي» عند الإشارة إلى عادل إمام.

فعلا كان عادل إمام تلميذ فؤاد المهندس الذي قدّمه على المسرح في أول أدواره من خلال مسرحيتي «أنا وهو وهي»  و «أنا فين وانتي فين»، ولكنه ظل يناديه بـ «الاستاذ» حتى بعد أن شاركه بطولة فيلم سبق فيه اسم عادل إمام اسم استاذه في «تايتل» الفيلم وإعلانه «الأفيش».


المهندس 

رغم أنه لقب عائلي اختص به المهندس ولازمه منذ البداية «فهو فؤاد زكي محمد المهندس» إلاّ أن هذا اللقب قد تضاعفت احقّيته وتعضّد في الاقتران به، لأنه وكما وصفه النقاد المصريون بـ «صانع البهجة». وهنا سأذهب باتجاه توصيف «صانع الضحك» فصناعة الضحك تتطلب دراية ووعياً بعناصرها وقواعدها وأسسها، وبذلك فهي بحاجة إلى من «يهندس» لها ويرسم خريطة بنائها من مرحلة التأسيس فالبناء التصاعدي وتدرجاته وصولا إلى التسقيف وال «فنشنگ». وهكذا كان المهندس يهندس عملية الإضحاك من خلال:

التأسيس له عبر إما أداءات لفظيَّة أو حركيّة تمهيديَّة من قِبله أو من خلال أفعال وأقوال ممهدة و»رافعة» للفعل أو اللفظ الكوميدي الذي سينفذ ويطرح في التوقيت المناسب.

وبعد نجاح عملية صناعة وانتزاع الضحكة بمستوى من مستوياتها، أو انتزاع الابتسامة العريضة في أقل تقدير، يؤسس المهندس للمرحلة الثانية وهي توسيع مدى الإضحاك إلى مرحلة «القهقهة» القصيرة أو المتقطعة، ومن ثم محاولة انتزاع القهقهة العالية الطويلة كمحصلة قصوى في عملية الإضحاك. 

كان المهندس بارعا في عملية بناء هذه المراحل الادائية بأدائه وبتوظيف الممثلين والممثلين الشركاء، لاسيما «السنّيدين» منهم، وهو لا يتورع عن أن يكون هو بنفسه «سنّيدا» في مشهد ما، أو موقف ما، لزميل أو زميلة له لتحقيق عملية الإضحاك بمختلف درجاتها ومستوياتها.


التنوع الكوميدي 

امتلك المهندس كل أدوات ومقومات الممثل الكوميدي «خفة الظل، سرعة البديهة ، مهارة الاستلام والتسليم. الكاركتر، المرونة الجسمانية، مهارة الارتجال، صوت محبب ومرن»، فضلا عن الشكل الكوميدي «بدانة نسبية، شعر قصير، وجه مبتسم بنظارة».

يرسم الابتسامة ومن ثم يعمل على تعميقها لتتحول إلى ضحكة ربما تكون مشروعا لقهقهة. لكنه لم يكتفِ بهذه المؤهلات فعمّقها بقدرات معرفية «نظرية وتطبيقية» في أسرار الكوميديا ومقوماتها حتى أطلق عليه بعد اكتسابه الخبرات المتراكمة لقب «استاذ الكوميديا».

حين نقول «استاذ الكوميديا» فلأنه يتعامل بعلمية، بأسس وقواعد الكوميديا وأصنافها المتعددة المتنوعة، فلا يتعكّز على واحدة من دون الأخريات، مثلما يفعل الكثير من الكوميديانات بالاعتماد على كوميديا اللفظة «الافيهيات»، فالمهندس مخرجاً وممثلاً ينوّع في استخداماته الكوميدية بين كوميديا اللفظة التي يتبناها من حوار النص ويعمّقها، وبين الكوميديا الحركية «الإيماءات والاشارات، واستخدام الوجه وأطراف الجسم السفلى والعليا»، إلى جانب كوميديا الشخصية، وهو هنا يحيد بناء أنماط كوميدية خاصة لشخصيّاته التي كان يقوم بتأديتها ليميزها حركيا وصوتياً وايقاعياً.

المحامي في (أنا وهو وهي). 

الموظف البسيط الغلبان في (أنا فين وانتي فين).

الاستاذ الجامعي في (سُك على بناتك).

الباشا المليونير في (هالة حبيبتي).

الرجل الارستقراطي في (سيدتي الجميلة).

رجل العصابة وشقيقه الرجل الساذج في (علشان خاطر عيونك). لقد كان المهندس يمثل في تجربته الطبقة المتوسطة التي كانت قد بدأت تنمو وتتسيد الواجهة في مصر الستينات، فهو الموظف في أكثر الاحيان والكاتب في مسرحية (حواء ساعة 12) ومؤلف الأغاني في فيلم اعترافات زوج والمحامي في مسرحيّة (أنا وهو وهي) والفنان التشكيليّ في فيلم «نحن الرجال طيبون». 

وإلى جانب الأنواع الكوميدية سالفة الذكر فإن المهندس كان يعوّل على «كوميديا المفارقة» انطلاقا من وعيه بأهميتها، وعمق تأثيرها الكوميدي على الجمهور كما في مشهد «نشل محفظته» في «أنا فين و انتي فين»، ومشهد «الطبيخ» مع محمود الجندي في «علشان خاطر عيونك»، على سبيل المثال.

كما برع المهندس في استخدام بعض اللوازم اللفظية والجمل والكلمات التي تركت أثرا في نفوسنا وظلت عالقة في ذاكرتنا السمعية «جِدّك كان بتاع بليلة/ ابوكي كان صرماطي؟ تبئي مش من مستواية/ القانون مفيهشي زينب/ المكنة طلّعت قماش/ كانتي تسيبيه يمسكها يا فوزية/ بلاها نادية خد سوسو/ مغلق لعدم وجود اخلاق/ مع ذلك نشلت الفانيلة/ ازاي معرفش؟/ كلمتين وبس» وغيرها. 

كلمات ولوازم حفرت في ذاكرتنا وعلقت في اذهاننا ومازالت رغم مرور عشرات السنين، ومن أجمل وأروع اللوازم حين استخدم جملة كوميدية في سياق مشهد كوميدي في مسرحية «سيدتي الجميلة» حين سرقت صدفة «بعضيشي» شويكار «فانيلته» رغم كثرة ما كان يلبسه فيقول: «قميص بست زراير  وسديري وجاكيت مقفول ومع ذلك نشلت الفانيلا»، ليعود ويختتم مسرحيته بطريقة توظيف درامي دلالي لهذه اللازمة التي هدفت للإضحاك في المرة الأولى، ليقول في آخر حوار له في المسرحية وهو يحتضن حبيبته صدفة شويكار: «مع أني كنت لابس.. الخ مع ذلك نشلت قلبي/ ازاي

 معرفش؟». 

ومن الانصاف الفني والنقدي أن نعترف بالمستوى الفني والفكري والدرامي العالي لمسرحية «سيدتي الجميلة» التي قام ببطولتها الفنان الاستاذ المهندس بالشراكة مع رفيقة مشواره الفني شويكار، وكانت من اخراج حسن عبد السلام، وقد قام كل من سمير خفاجة وبهجت قمر باقتباسها من «بيجماليون برناردشو».

ومن سيعيد مشاهدة هذه المسرحية عبر «اليوتيوب» سيستمتع وكأنه يشاهدها لأول مرة. سيستمع بالأداء التمثيلي الراقي وعالي المستوى للممثلين وللفكر المتقدم في معالجة قصة «بيجماليون» وباحترافية الاخراج لهذه المسرحية التي عززت وأكدت أستاذية المهندس.


الموسيقي 

كانت الموسيقى جزءاً مهما وحيويا في أعمال المهندس السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، وكانت عنصرا دراميا وجمالياً لا غنى عنه.. وكانت الموسيقى «الحية» المباشرة تلازمه على المسرح وهو يؤدي بعض المقطوعات الغنائية منفردا أو بشكل ثنائي كما في أغنيته في مسرحية «أنا فين وانتي فين» مع الطفلة التي أدت دور ابنة شويكار في المسرحية «رايح اجيب الذيب من ديلو بس على الله يكون له ديل، وان مقدرتش اجيبو حسيبو وارجع اقول ملئتلوش ديل».

وذكر الناقد طارق الشناوي أن الأستاذ المهندس كان لديه أحساس نغمي في ادائه، بمعنى أنه من أكثر الممثلين الذين قدموا أغاني في أعمالهم، فقد لحّن له كبار الملحنين المصريين أبرزهم «محمد عبد الوهاب، بليغ حمدي، محمد الموجي، كمال الطويل، منير مراد»، لأنه كان يمتلك حسّا نغميا وتمكن من أن يحيل النغمة المسموعة لنغمة في الاداء. كما أكد الشناوي على مرونة ولياقة الجسد لدى المهندس الذي كان جسده بكل اجزائه يعبر عن المعنى في ادائه التمثيلي أو الغنائي. 

كان المهندس يميل إلى الاستعراض ويحب زرع «الاسكيتشات» الغنائية ذات الطابع الكوميدي في مسرحياته، وانسحب هذا الأمر إلى أفلامه السينمائية التي ضمّنها عدد من الاغاني الثنائية مع شويكار «أنا جيت وعليك خشيت فايزة ومنصورة» ومع صباح «الراجل ده حيجننّي».

وبذلك فأن المهندس كان يمتلك في داخله قدرا كبيرا من الشحن، ونبلا انعكس في أدواره التي جمع فيها بين التمثيل والغناء والرقص، فبات حالة إبداعية متفردة وجميلة، وبذلك استحق لقب «الاستاذ». 


فيلسوف الحب

مارس فناننا الفلسفة ببساطتها «البليغة» لا بنزوعها وطابعها المترفع المتعالي «المتحذلق» ليلامس جوهر الحياة. ويكشف لمتلقيه أن السر يكمن في حرفين «مش أكثر.. الحب»، فكانت كلماته التي اطلقها بصدق واحساس وتبني بصوته المحبب وبلهجته المصرية السلسة الجميلة التي باتت جزءاً من ثقافتنا وذائقتنا وذاكرتنا. 

يطرح المهندس فلسفته للحب عبر أعماله المسرحية والسينمائية وبرامجه وأعماله الإذاعية والتلفزيونية، فلسفةً بسيطة معمّقة، فلسفة لا تميل للتنظير والتعقيد، بل تميل إلى جوهر الإنسانية المتمثل بالحب والعمل، إذ يرى المهندس أن الحب عمل لا كلاما «عمر الحب مكان كلام! لأنه سيكون عندئذ رخيصا». ولذا- يقول وبصوته- يجب أن يكون الحب عملا يغيّر شكل الحياة ويعمل على تقليل كمية الألم وتخفيفه في العالم، عمل بالأحزان إلى الانكماش، ويجعل الحياة أكثر راحة وهدوء، ويرسم صورة أنظف وأجمل للحياة.. كلما زادت كمية الحب في العالم قلت كمية الشقاء

 فيه. 

ويستطرد - بادائه الصوتي المحبب- (لولا وجود الحب ما كانت الدنيا لتكون مكاناً محتملاً! الحب هو روح الحياة واصل الخلق، فوراء كل الأعمال العظيمة التي نراها ونشهدها على الأرض نجد الحب).. ويؤكد بأنه (لولا الحب لم يكن الأدب ولم تكن الموسيقى ولا الفن أصلا، فلقد بنيت الحضارات الكبرى على الحب والحرية).

ويختتم كلامه في الدعوة بأحكام منطقية: 

«العلم من غير حب يبقى هو استغلال وتجارة ودمار الدين من غير حب يبقى هو شكل وقشرة ومظهر القوة من غير حب تبقى قسوة 

وظلما». 

لم يحصل المهندس طوال حياته ومسيرته الفنية على جائزة واحدة! واكتفى بحب الجمهور له، ذلك الجمهور المنتشر في مدن عربية توزعت بين المحيط والخليج. استمتعت بفنه وأبت إلا أن يبقى عالقا في ذاكرتها، ولا يغادرها.. لقد فاز بالجائزة الأعظم.