عروس الكنائس تَسرُّ الناظرين بفستانها الأبيض

ريبورتاج 2024/09/17
...

 يوسف المحمداوي

 تصوير: نهاد العزاوي

من أرشيف الماضي: المكان/ ميسان/ محلة التوراة/ كنيسة أم الأحزان، الزمان/ جمعة أيلولية من منتصف ستينيات القرن الماضي، الحضور/ راعي الكنيسة، مجموعة من نساء مسيحيات ومسلمات ومندائيات، مزاح وقهقهات طفولة، وما يميزهن العباءات السود، و(فوط بيض)، و(جراغد سود)، وتنورات ملونة بأطوال وأشكال مختلفة، مكانس تتناوب عليها أم صليوة والمندائية أم رسول والمسلمة والدتي أم مزهر وأخريات، لتنظيف باحة الكنيسة وقاعة الصلاة، ونحن أطفال المحلة (حمود ونظام وصليوة وجاسم وحمدية وعفت ولميعة ومزعل وبيجان) نتسابق لتزيين باب الكنيسة بالحناء، كانت النوايا قلوباً مؤمنة تماماً بأن الله واحد، وإن تعددت الأديان والمذاهب والقوميات، والدليل الحناء لم تميّز أصابع حمود عن صليوة.

كنيسة القديس (كريكور المنوّر)

بعد عقود من ذلك الماضي الجميل في كل لحظاته، متناسياً أصدقاء الأمس ودلو الحناء ومقالب الطفولة وكنيسة أم الأحزان وراعيها دانيال، أجد نفسي اليوم جالساً بجوار راعي كنيسة الأرمن في ساحة الطيران في بغداد الذي تجاوز العقد السابع من العمر، وهو يصطحبني برحلة حديث ممتعة عن تاريخ هذه التحفة الروحانية البيضاء الفاتنة كقلوب ووجوه إخوتنا الأرمن في هذا الوطن الذي حباه الله عز وجل بهذه الأطياف الرائعة والنابعة من صميم أديانه السماوية الطاهرة. 

بتواضع كبير جلس القس الأب (كيفورك ارشكيان) راعي كنيسة الأرمن شاكراً الجريدة على حضورها للكنيسة وتغطية نشاطاتها قائلاً: إن هذه الكنيسة تسمى كنيسة القديس (كريكور المنوّر) نسبة إلى قديس له امتياز وأهمية في حياة وتاريخ الأرمن، والتي تم إنشاؤها في العام 1954، وافتتاحها كان في العام 1957، حيث بدأنا في عمل القداسات و الصلوات داخلها، ومنذ الافتتاح إلى يومنا هذا لم تتوقف نشاطات الكنيسة وأعمالها، ولدينا في بغداد فضلاً عنها، كنائس أخرى.


مزارٌ لجميع العراقيين

 يستطرد راعي الكنيسة في حديثه ليؤكد لنا أنه في منطقة الباب المعظم وتحديداً في ساحة الميدان لدينا كنيسة مريم العذراء والتي تعد من أقدم كنائسنا، حيث بنيت في العام 1639 م، في زمن الدولة العثمانية بناءً على طلب أحد القادة العسكريين والذي كان أرميني الأصل بعد أن سجلت طائفة الأرمن كطائفة تدين بالمسيحية في العراق عام 1638.

وهي من الكنائس التي يرتادها جميع العراقيين من مختلف الأديان والطوائف، ومن غير تفرقة أو تعصب وأجزم قائلاً وأنا مسؤول عن كلمتي، إن كنيسة مريم العذراء الحالية أصبحت مزاراً يرتاده وبشكل منتظم الكثير من أبناء المجتمع وبمختلف انتماءاتهم الدينية والقومية والمذهبية، وبشهادة جميع من زارها وتحقق له المراد من خلال زيارتها بحسب قول الأب (ارشكيان)، ولتعزيز وتعضيد كلام القس سرقني أرشيف الذاكرة إلى زيارتي الأولى لتلك الكنيسة مع إحدى زميلاتي المسيحيات في تسعينيات القرن الماضي، وأتذكر ما حصل حين دخلتها من الباب الرئيس، وكانت فيها مناسبة خاصة لا أتذكرها، وقاعتها مزدحمة بالزائرين ولهيبة وقدسية المكان صحت بأعلى صوتي (اللهم صل على محمد وآل محمد) فالتفتت لصوتي جميع الوجوه الحاضرة بابتسامة ترحيب لا يمكن تجاهلها، ولا يمكن نسيان حلمي في الليلة التي تلت الزيارة حين جاءني السيد المسيح (ع) بصحبة الطاهرة مريم العذراء (ع) ومسكت يدي ووضعت فيها قطعة حلوى، وكانت زوجتي حاملاً ولم يكن السونار الذي يميز المولود موجوداً حينها، فاتفقنا على تسمية المولود (عيسى) إن كان ذكراً، و(مريم) إذا كانت أنثى والحمد لله الذي رزقني بأصغر البنات (مريم) وشكراً لذلك المزار الرباني على ذلك الحلم الجميل الذي لم ولن أنساه أبداً. 


سارة خاتون    

وهناك كنيسة أخرى كما يقول الأب (ارشكيان) موجودة في منطقة «كم سارة « تسمى كنيسة القديس (كرابيت) وهي أيضاً من الكنائس القديمة، وحول سؤالنا لماذا لم تسمَ الكنيسة باسم (سارة خاتون) التي سميت المنطقة باسمها لكونها هي من تبرع بالأرض لبناء الكنيسة لكونها أحد تجار بغداد في ذلك الزمن، أكد الأب أن الطائفة الأرمنية عملت بالمبدأ المتبع لها وفقاً لتعاليمنا وهو تسمية جميع الكنائس الأرمنية باسم القديسين فقط، والمرحومة (سارة خاتون) رغم كونها من أصحاب الجاه والمال ومن الأرمن، لكنها لم تكن قديسة ولذلك لم تسمَ الكنيسة باسمها، وهي عاشت وتوفيت في بغداد ودفنت في مقبرة الأرمن الموجودة في منطقة (الشاعورة أم جدر) التابعة لمنطقة المعامل الواقعة مابين محافظتي بغداد وديالى، ولدينا في تلك المقبرة كنيسة أخرى تسمى كنيسة (الشهداء) وسميت بهذا الاسم احتراماً وتقديساً لشهدائنا الأبرار، لأن مقبرة الأرمن الموجودة حالياً بجوار كنيستنا توقف الدفن فيها منذ العام 1987 لعدم قدرتها على الاستيعاب ولذلك قامت الحكومة آنذاك بإعطاء الوقف المسيحي تلك الأرض الموجودة في منطقة الشاعورة أم جدر الموجودة على الطريق السياحي الرابط مابين بغداد وديالى، لتصبح المقبرة الجديدة وكذلك الكنيسة الموجودة فيها، مع العلم أن مقابر تلك المنطقة تضم رفات جميع الطوائف المسيحية كالأرمن والكلدان والسريان وغيرها، ما يعني أنها مقبرة لجميع الطوائف وليست خاصة للأرمن فقط.


مدرسة الأرمن الأهلية

الأب (ارشكيان) بين لنا أن المقابر الأرمنية تضم رفات المطارنة ورموز الأرمن من علماء وأطباء ومهندسين وأساتذة وفنانين وأدباء وعسكريين وشرائح المجتمع الأرمني كافة، وبشأن المقبرة المجاورة للكنيسة يقول الأب: إنها تأسست منذ العام 1904 أي كان الدفن فيها قبل تشييد الكنيسة وافتتاحها، وجميع الأرمن المتوفين منذ ذلك التاريخ إلى العام 1987 هم مدفونون فيها، وحول الأخبار التي تقول أن الأديب والباحث اللغوي (أنستاس الكرملي) و (المسز بيل) مدفونان فيها، نفى الأب ذلك نفياً قاطعاً، وأوضح أن المسز بيل مدفونة في مقبرة مجاورة لمحطة تعبئة وقود الكيلاني، وتسمى بمقبرة الألمان، كما سمعنا وهي غير تابعة لكنيسة الأرمن بحسب قوله.

وبين لنا القس أن هناك كنائس للأرمن في البصرة وكركوك والموصل ودهوك وأربيل، فضلاً عن كنائس بغداد التي ذكرناها. 

وعلى البقعة الجغرافية التي تشغلها الكنيسة توجد مدرسة ابتدائية ومتوسطة مختلطة، وجميع طلبتها من الأرمن ويبلغ عددهم حالياً أكثر من (100) طالب وطالبة، وهي مجاناً للعوائل الأرمنية الفقيرة، ومقابل مبلغ مالي رمزي للعوائل المتمكنة كما بين الأب.


قطعُ أراضٍ للمسيحيين

بشأن مراجعة بعض المواطنين لإدارة الكنيسة التي رأيناها أثناء الزيارة أشار الأب الراعي (ارشكيان) إلى أن بعض المواطنين الأرمن يراجعون من أجل شهادات تعميد لأبنائهم بما يثبت تعميدهم كمسيحيين، فضلاً عما وردنا من خبر سار من الوقف المسيحي وأثلج قلوب جميع طوائفنا، مفاده أن رئيس الوزراءمحمد شياع السوداني أمر بتخصيص قطع أراض لجميع المسيحيين، ونتمنى أن يتحقق ذلك، وهذه هي أهم أسباب المراجعات من قبل مواطنينا الكرام. 

وعن المرجعية العليا للأرمن في العالم أشار الأب وراعي الكنيسة (ارشكيان) إلى أن مرجعيتنا توجد حيث يوجد الكرسي الرسولي  في ارمينيا واسمه (الكاثوليكوس كاريكين الثاني) وهو المرجع الديني الأعلى للأرمن في العالم، الذين يبلغ عددهم ثمانية ملايين أرمني في جميع دول العالم، أما في العراق فلا يتجاوز عددهم اليوم الخمسة آلاف أرمني بعد أن كانوا بحدود العشرين ألف أرمني، لكن الظروف التي مر بها البلد هي من تقف وراء تقليص العدد لهجرة البعض لأسباب مختلفة.


أرمنيَّة التصميم

الناظر للكنيسة يبهره جمالها، لكونها عبارة عن مبنى اسمنتي ضخم ذي تصميم متطاول مغطى بطبقة من الطلاء ذي اللون السكري الناصع البياض، والذي جعلها كعروس لكنائس بغداد وهي ترتدي فستانها الأبيض، أما الجزء السفلي منه فهو مغطى بحجارة من نفس اللون ومزخرفة بصلبان أرمنية، وتتميز هذه الكاتدرائية بواجهة خارجية كبيرة مزخرفة أما من الداخل، فيوجد فيها أثاث فاخر، وتتوزع على جدرانها لوحات زيتية جميلة معظمها للفنان العراقي الأرمني (انترانيك أوهانيسيان)، وتملأ سقوفها الثريات والأضواء المبهرة وأرضيتها التي فرشت بالسجاد الجميل، فضلا عن المقاعد الخشبية التي صفت بانتظام لاستقبال الزائرين أو الحاضرين لصلاة القداس، وهي تمثل النموذج الأمثل للعمارة الأرمنية المقدسة، فهي مصممة على شكل صليب (تظهر أذرع الصليب من الخارج)، ولها قبة مثمنة الشكل تعلوها قبعة هرمية، والكنيسة جميلة جداً، راعى فيها مهندسها البناء على الطراز الأرمني الأصيل، ومن مقتنياتها الثمينة أنجيل قديم طبع بمدينة البندقية في إيطاليا عام 1759 تم تغليفه بالفضة عام 1813، بحسب ما تشير بعض المصادر التاريخية.

وقال لنا الأب الراعي: إن من قام بتصميم كنيسة القديس كريكور المنوّر هو المهندس (مارديروس التونيان).


رموز الإبداع الأرمني

مدير الإدارة والخدمات في الكنيسة (اكوب سوكاس اسحاقيان) الذي قام مشكوراً بترتيب موعدنا مع الأب راعي الكنيسة وقام باستقبالنا، أكد لنا أن للأرمن دوراً بارزاً في رفد المجتمع العراقي بأسماء مهمة في جميع روافد الإبداع سواء في داخل البلد أو خارجه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، (آناستيان) أول طبيبة عراقية عينتها وزارة الصحة عام 1939، (بياتريس أوهانسيان) أول عازفة بيانو في العراق، والأديبان (يوسف عبد المسيح ويعقوب سركيس) والصحفي (شكري كرابيت)، والموسيقار (آرام أرميناك)، وفنانة الشعب (آزادوهي صموئيل)، والفنانة (سيتا هاكوبيان)، والمخرج (كارلوهارتيون)، وبالنسبة للرياضة أذكر منهم بطل العراق بكمال الأجسام (جيرار كايايان) ولاعب المنتخب والقوة الجوية (آرا همبرسوم) ولا يمكن تجاهل أشهر تجار العراق (كالوست كولبنكيان) الذي أسهم في بناء العديد من الصروح العراقية المهمة منها (ملعب الشعب الدولي، مدينة الطب، قاعة الفن الحديث أو قاعة كولبنكيان). وغيرها من المشاريع الأخرى.وأنا أرزم أوراق الرحيل عن عروس كنائس الأرمن ومرجعيتها الدينية، وبحنين الشيخوخة للصبا وللطفل (الماذر) في باحة كنيسة أم الأحزان، وجدت نفسي أردد مع العراقية الأرمنية المطربة البصرية (سيتاهاكوبيان) أغنيتها (بهيده):


(بهيده من تسبكَني روحي أبهيده هيده.. والفرح داير عليها

بهيده من تتعنى يمك أبهيده هيده..  ويمك يوّرد حجيها

بجفوفك الترفات.. تتمنى روحي تبات.. وانذرلك النجمات.. كونك تجيها.