أمين قاسم الموسوي
ما المقصود بالفضاء السردي؟ تمدنا المعجمات اللغوية بمعنى الفضاء، بأنّه المكان الواسع، فهو مكان إذاً ينماز باتساعه، بهذه الصفة التي اتصف بها، يتبادر إلى الذهن لفظ (حيز) وهو مكان أيضاً لكنه يحتوي ويحوز شيئاً ما، وبهذا نستطيع القول إن الفضاء والمكان والحيز مفاهيم متداخلة، وليست هي إياها، وإلا لكان واحدُها يغني عن الآخر، ولاكتفت اللغة بواحدٍ من الألفاظ وإلا فإن وجود الآخر بلا إضافة للمعنى انما هو هذر ولغو لا مبرر له . في ما يخص "الفضاء السردي"، أنا أميل إلى صفته التي تمدنا بها المعجمات "المكان الواسع"، ولذلك ليس اعتباطاً قول العامةُ في اللغة المحكية واصفين من يتصف بطول البال، أو الصبر بأنه (خُلگه فِضي) فلا ينفعل أَو يثور وانما يتسع صدره ويستوعبُ ما حوله، وعليه فالفضاء السردي هو كل ما يدور في عالم السرد، من مكان أو زمان أو حدث، وهذا الفضاء محتاج إلى ما يملؤه لتأثيثه حتى يكتسب عمقاً له تأثيره على الجو العام، وخلو السرد من هذا التأثيث يجعله شاحباً، وتأتيت الفضاء السردي يتفاوت بين كاتب وآخر، ولتكن القصصيَّة العراقيّة تُماضر كريم انموذجاً منه نستل أمثلة لتأثيث الفضاء السردي في مجموعتها القصصيَّة الثالثة "تاتو"، ولنأخذ "النافذة" بوصفها، تأثيثاً سردياً وهل أدت - النافذة - دورَها في الفضاء السردي حيثما وردت.
جاءَ في قصة "روبوتات" التي ثيمتُها شك زوج بزوجته: "بدت ليلة هادِئة، ثمة نجوم ببريق صافٍ تظهر من النافذة نصف المفتوحة"، هذه الصورة الرومانسيّة ببريق نجومها، جاءت لتمتص ظلام الشّك القاتل عند الزوج، فهي توحي بتطبيق عمليّ للقانون الفيزياوي" لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه"، فظلام الشك وناره خلال يعاكسهما، بريق النجوم المشع من خلال النافذة، ولا تكتفي الكاتبة بهذا بل تضيف وتؤثث بكوب الحليب بالكاكاو "يتصاعد بخاره بعذوبة فاتنة" وكأنه معادل لصوت الزوج المتفجر غضباً: "هل تخونينني؟"، ولما كانت اتهامات الزوج باطلةً، وليس لدى الزوجة سوى حديثها مع نفسها عن هذا الاتهام الباطل، فإن الكاتبة تعود إلى النافذة المفتوحة لتغلقها: "انطبقت النافذة بتأثير موجة هواء مفاجئة بينما تبددُ سكون المنزل بعض التهديدات" ان انطباق النافذة جاء موفقاً لأنه يوحي بموت بريق النجوم، كما يوحي باستمرار ظلام الشك و تنهدات ملؤها الألم الذي يغلق نافلة الأمل، كما يوحي بانتهاء القصة، و في قصة "أسوأ من الموت" وهي قصة رجل يحبُّ زوجته المبتلاة بأنها: "تنسى بأني زوجها، تنسى أشياء كثيرة، لا يهمني أن تنسى كل شيء، وأيّ شي، لكن أنا...". إِن هذا النسيان فعلاً "أسوأ من الموت"، والمهم في عالم السرد تأثير ذلك على الرجل المنسي، إنه ذو روح وأخلاق مثالية صافية، وماذا يعكس صفاءه هذا غيرُ "نظراته بعيداً للسماء الصافية التي ظهرت من نصف النافذة المفتوح"، فالكاتبة هنا قد أضفت معنى الصفاء بهذه السماء الصافية التي بدا صفاؤها من خلال النافذة، وكل ذلك يوحي بصفاء هذا الرجل نفساً وتصرفاً، خصوصاً فيما أظهرته الكاتبة من حبه وإخلاصه لزوجته كونه ظلَ محتفظاً بكل ما يعود لها من أدوات زينة وثياب، محافظاً عليها في غرفة نومها، وتعود الكاتبة ثانية في القصة نفسها "أسوأ من الموت" فتؤثث فضاء السرد بنافذة تعبر عما يعتمل في دواخل الشخصيات "ثمة زقزقةٌ لعصافير تطير قريباً من النافذة المفتوحة على مصراعيها" فما يظهر من خلال النافذة المفتوحة على مصراعيها يوحي بعاطفة تريد أن تُظِهَر ما ينفس عنها سواء أكان ذلك من الرجل أم من المرأة التي ايقظ صوتَ عواطفها هذا الرجل وتطالعنا النافذة" في "قصة في المدى القريب" فيؤدي وجودها إلى الأحساس بالأهمال "كان الكتاب في يدي، وقد وقعت عليه حزمة أشعة نفذت من شباك المكتبة، بدا وحيداً جداً مثل شخصٍ فاته القطار"، ترى ما الذي أداه وجود "شباك المكتبة" الذي نفذت منه حزمة أشعة الشمس؟ الكاتبة تقول في القصة نفسها: "إن في الحياة كما في الروايات لا شيء بلا مغزي.."، فما مغزى تلك الأشعة من تلك النافذة على ذلك الكتاب الذي كان يقبع في حقيبة مؤلفته، وهو الذي كما ترى كاتبته يجب أن يحتل مكانه بين صفوف كتب المشاهير، لا أن يبقى وحيداً بين يدي مؤلفته، ما انتفاعه بنور شباك لا يضعه في مكانه اللازم، هكذا أثثت الكاتبة فضاء السرد في مجموعتها هذه، وقد كانت النافذة مثالاً اعتمدتُ عليه، مع أن النافذة وردت في قصص أخرى من المجموعة نفسها، كقصة "لعنة" التي أعدها ايقونة المجموعة، وهي قصة اعتمدت التحليل النفسي واترك للقارئ اكتشاف مدلول النافذة فيها هذا المدلول الذي شاع في الأدب العالمي خصوصاً في قصة "النافذة المفتوحة"، للكاتب الانكليزي هيكتور هيومونرو التي كانت النافذة فيها رمزاً للأمل المفتوح بانتظار الغائب.
ختاماً، إِن اهتمام الكاتبة بتأثيث الفضاء السردي جاء واضحاً في "تاتو"، إِضافة إلى عنايتها بلغتها نحواً و صرفاً و إملاءً وتركيباً.