العراق وآفاق التنمية المستدامة

ريبورتاج 2024/09/19
...

 حسن جوان

 تصوير: خضير العتابي

بعد تحقيق منجز سداد الديون السيادية المترتبة على العراق، تخطو حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ضمن منهاج طموح وجريء إلى بناء أفق اقتصادي يقوم على منهاج التنمية المستدامة. وهي خطوة تحتاج إلى الكثير من الأسس والبنى التي تعمل الحكومة الحالية على تفعيلها في ظل تحديات سياسية واقتصادية مستمرة. ومن أجل فهم ومناقشة هذه النقلة، التي بدأت في التحرر من عبء الدين العام والاتجاه نحو التنمية، كذلك على سبيل مناقشة مفاهيم التنمية وخطط وشرائط تنفيذها في الافق المنظور، وعن استعدادات العراق لمثل هذا النمط من التنمية، تعرض (الصباح) آراء عدد من الباحثين المختصين في الشأن الإحصائي والاقتصادي في تصريحات خاصة بهذا التحقيق:

مارثون التنمية

يرى الدكتور حامد رحيم المختص في التنمية وعلوم الاقتصاد بأن إحدى النقاط الجوهرية على سبيل التنمية المستدامة تقوم على أسس فك الارتباط بين الاقتصاد الحالي وموارد النفط، فضلا عن حزمة معقدة من الظروف التي يعرض لها بقوله: لم يكن يوم 24/ 9 / 2004 يوما عابرا، بل عُد نقطة تحول في بنية الخطاب العام للدولة في العراق، إذ أطلقت السلطة المؤقتة في ذلك اليوم رسالة سميت (رسالة نوايا) كانت بمثابة إعلان عن توجهات اقتصادية تختلف في شكلها ومضمونها عمَّا اعتاد على سماعه العراقيون والاخرون المهتمون بالشأن العراقي، انها مهدت لجولات واجتماعات وتنسيق مع المنظمات الدولية ذات الشأن الاقتصادي، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.

واضاف "كانت مسيرة طويلة حافلة بالأحداث، السلطة في العراق من جانب، وخبراء صندوق النقد الدولي من جانب آخر، برامج ومقترحات وتسويق سياسات اريد لها ان تكون (وصفات علاج) لمشكلات العراق الاقتصادية، كما يصفها خبراء صندوق النقد الدولي، في الجوانب المالية والنقدية وقضايا سعر الصرف وميزان المدفوعات وغيرها".


ظروف طارئة

ويبين رحيم، أن "صندوق النقد الدولي قدم عبر المدة الممتدة منذ 2004 عام رسالة النوايا حتى عام 2021 إلى العراق دفعات مالية على شكل قروض بمبالغ مختلفة مشروطة بتطبيق برامج (التثبيت الهيكلي) قصيرة الاجل، من ضمنها هيكلة مؤسسات القطاع العام الخاسرة، والحد من إلزام الحكومة بإجراءات التعيين المركزي، وترشيد الانفاق العام ورفع أسعار الخدمات الحكومية وغيرها الكثير، وكان اجمالي تلك القروض الممنوحة عبر المدة المشار اليها قرابة (8) مليارات دولار، هي عبارة عن ديون في ذمة العراق لصالح صندوق النقد الدولي، وتوزعت تلك القروض بين منح ومساعدات لمواجهة ظروف طارئة وأخرى طويلة الأجل نسبيا". 

ويتابع المختص في التنمية وعلوم الاقتصاد "تمكن العراق خلال السنة المالية الحالية 2024 من سداد الثمانية مليارات، التي تمثل الديون كافة والمترتبة بذمته لصالح صندوق النقد الدولي، والمتأتية من البرامج والمساعدات المشار اليها آنفا".

ويشير إلى أن "تلك الحقبة الزمنية كانت جزءًا من محاولات لإيجاد الطريق المؤدية نحو (حلم التنمية الاقتصادية) الطريق الغائب وسط صخب الحروب والفساد والتشرذم وعدم الانسجام السياسي والاجتماعي، الذي شهدها العراق عبر العقود الزمنية الأخيرة، التحدي يكمن في إيجاد مقدمات التنمية الاقتصادية المتمثلة بالشروط السياسية والاجتماعي كالاستقرار السياسي والأمني وقوة القرار الوطني على حساب قطع دابر التدخلات الخارجية، وعلى راس ذلك تحجيم الفساد، إضافة إلى الاستقرار الاجتماعي والانسجام وإنهاء حالة التقاطع والاحتراب الداخلي وتبعاته من مخيمات نزوح وثكنات وأسئلة أمنية لم يجب عليها إلى الآن".

وأردف إلى أن "الحكومة تمكنت على إثر تحقيق كل تلك الشروط، من الانطلاق نحو سياسات وبرامج تنموية مشفوعة بمنظور استراتيجي، لتنويع النشاط الاقتصادي وإقامة سوق عمل واسعة متنوعة تكفل فرص عمل، ضمن النشاط الخاص والمراهنة على مشاريع الصناديق السيادية، وتمكين المشاريع الرافدة للصناعة التحويلية، والعمل على تنويع صادرات العراق، وفك الارتباط الحالي بين الاقتصاد والنفط"، منوها بأن "الإرادة السياسية والقدرة على الإدارة والأداء الفاعل عناصر للتنمية الاقتصادية تسبقها الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، الدولة القوية مفتاح الولوج إلى التنمية الاقتصادية".  


رؤى وبنى تحتيَّة

بينما يرى الباحث عبد الزهرة الهنداوي الخبير والناطق باسم وزارة التخطيط، أن البرامج الأساسية ضمن هذه الخريطة تركز على إيجاد أنظمة البنية التحتية، ويعطي أهمية لهذا التمهيد المتمثل بتحرر العراق من ديونه السيادية أولا. يقول الهنداوي: تمكن العراق من الخروج من عبء الدين الخارجي وتأثيراته على الناتج المحلي الاجمالي والتنمية بشكل عام، يمثل دفعة قوية بالنسبة إلى التنمية في العراق. وقد حدث هذا التوجه اليوم المتمثل بالابتعاد عن الاستدانة قدر المستطاع، الا للضرورات القصوى بمعنى أن يكون الاقتراض فقط من أجل المشاريع الاستراتيجية الكبيرة، التي ليس بالإمكان تمويلها من الموازنة العامة. في المقابل هناك رغبة عالمية من قبل دول ومنظمات ووكالات عالمية بان تمنح العراق قروضاً ميسرة، على اعتبار أن البلد يمتلك فرصا استثمارية مهمة جدا.

وأكد أن "في اطار السعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي مضى العراق في وضع رؤى واضحة، ومن خلال الخطة الخمسية التي وضعت مؤخراً اعتمدت خريطة طريق لتحقيق التنمية، استندت على عشرة مجالات لفرص الاستثمار، يمكن للقطاع الخاص الاستثمار فيها لأنها راعت بشكل دقيق معايير الأعمال الاربعة، التي هي أن تكون قابلة للتسويق ومحددة وواسعة النطاق، فضلا عن مكانتها الكبيرة في السوق". مصيفا، أن "البرامج الاساسية ضمن هذه الخريطة تركز على إيجاد أنظمة البنية التحتية المقاومة للتغيير المناخي، والاستخدام الفعال للمياه والموارد المعدنية، لتسريع التحول العادل للطاقة والطاقة المتجددة وتنمية قطاع الزراعة. البرنامج الآخر المرتبط بهذه التوجهات يتجه إلى التنمية الشاملة للقدرات البشرية، على اعتبار أنها تمثل عامل تمكين في التعافي".


بيئة أعمال صالحة

فيما يرى الباحث محمد شريف، أن من أهم شروط التنمية هو تضافر البيئة الصالحة للاستثمار مع البيئة القانونية.  وبيَّن أنه عالميا عرف أن الحكومات التي تستطيع الخلاص من عبء مديونية الصندوق والبنك الدوليين هي الأكثر نجاحا في إدارة شؤون بلدانها، لأن مثل هذه الديون عادة ما تكون مشروطة في سياقات ما تسمى ببرامج الاصلاح الاقتصادي، التي عادة ما تستهدف خصخصة وظائف الدولة، وربط مصير البلدان المدينة بسياسات الجهات الدائنة ومن يقف خلفها.

وأوضح شريف أنه "من المفرح حقا أن تتمكن الحكومة العراقية من غلق ملف ديون صندوق النقد الدولي، التي تصاعدت شيئا فشيئا خلال سنوات العجز المالي، التي تلاحقت فيها الارباكات التي شهدتها البلاد، ووصلت إلى نحو ثمانية مليارات دولار من مجموع الدين الخارجي، ولكن الحكومة الحالية أعطت الأولوية في برنامجها للخلاص من عبء هذه المديونية، والاستعانة بالدين الداخلي عوضا عنها، ما يؤشر لنجاح سيسهم في تدوير الأموال المكتنزة في الداخل العراقي، عبر سندات الخزينة، بالتزامن مع انخفاض معدلات التضخم من 7.5 بالمئة إلى 4 بالمئة، على الرغم من التوسع في ادارة المالية العامة، بهدف تحقيق زيادات كبيرة في معدلات النمو، وهي سابقة ايجابية لم تحدث من قبل وتحسب للقائمين على السياستين النقدية والمالية،    

ويشير إلى أنه "من خلال متابعة بيئة الأعمال، يستطيع المراقب رصد ارتفاع نسب الإنجاز في كثير من المشاريع التنموية، بجانب انجاز المشاريع الخدمية، ما يمنح مؤشرات التنمية المستدامة الكثير من الدعم، وفي مقدمة هذه الانجازات، ما تحقق في مشروع ميناء الفاو الكبير بعد إكمال بناء الرصيفين الثالث والرابع والاقتراب من نهاية إنجاز الرصيف الخامس ووصول الأعمال في النفق المغمور إلى مراحل متقدمة جدا، الأمر الذي يبشر بقرب اكتمال هذا المشروع الحيوي، والذي سيشكل مع مشروع طريق التنمية منعطفا مهما على أرض الواقع، اذ سيبعث الحياة في سوق العمل مع تدفق السلع والبضائع عبر المدن العراقية باتجاه الموانئ التركية، وسيغير مسارات حركة التجارة العالمية في منطقة الشرق الأوسط". موضحا بأن "ذلك يتزامن مع إطلاق 29 مشروعا للنفط والغاز في 12 محافظة، ضمن جولتي التراخيص الخامسة التكميلية والسادسة، ما سيسهم في ايقاف حرق الغاز المصاحب ما بعد السنوات الثلاث المقبلة، ووضع حد لمشكلة الطاقة الكهربائية، فيما أعلنت الحكومة على لسان رئيس الوزراء السوداني، أنها "وضعت هدفا لتحويل 40 بالمئة من إنتاج النفط للصناعات التحويلية خلال 10 سنوات"، وهو ما كنا نطالب به على مدار السنوات الماضية". فيما اختتم شريف بقوله: ان هذه المشاريع وسواها ستؤسس لبيئة أعمال تسهم في تحقيق هدف التنمية المستدامة، اذا ما تكاملت معها البيئة القانونية، واستطاعت السياستان المالية والنقدية أن تحققا الاستقرار النقدي، بما يساهم في خلق 

البيئة الجاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي".


حالةٌ مستقرة

وفي الختام يوجز مصطفى أكرم حنتوش المختص بالشأن المالي والمصرفي حديثه بشأن شكل وأثر الدين العام ووضع العراق الحالي، الذي يعدَّه معافى من الناحية الاقتصادية والتنموية، ويقول: إن تعامل العراق مع ديون صندوق النقد الدولي بعدة انماط. وبعض تلك الديون كانت مباشرة واخرى كانت تحت إشراف صندوق النقد، مثل اتفاقية باريس 2 التي وضعت خطة إنهاء ديون النظام السابق من الاتحاد الاوروبي، والتي تعدُّ بحكم المنتهية حاليا بعد مرورها بمراحل عدة. اما الديون الحقيقية السيادية التي كان لصندوق النقد علاقة بها، مثلا ما يتعلق بديون الكويت، التي كانت باستقطاع مباشر من النفط قرابة 3 بالمئة والتي تم تسديدها ايضا. الدين العام العراقي من وجهة نظري في الوقت الحاضر يعدُّ في حالة استقرار لأنه لم يتجاوز نصف الإنفاق العام، وغالبه يقع ضمن الاقتراض الداخلي، اما الدين العام الخارجي، فليس بالأرقام التي تثير المخاوف أو القلق.