حلم حسين مردان

ثقافة شعبية 2024/09/19
...

كاظم غيلان 




يرى حسين مردان في نفسه "عبدُ حريَّة لا تطاق، حريَّة ترفض حتى أنْ تربطَ بطرف شعرة"، وفي واحدة من المرويات أنَّ عبد الكريم قاسم أخلى كرسيَّه كرئيس وزراءٍ لحسين مردان ممازحاً ليصبح هو الرئيس، ولم يدم الأمر لأكثر من نصف ساعة حيث أخذ بالصراخ!

إنه لا يطيقها، هذا الكرسي ليس بالحريَّة التي يريدها حسين الشاعر الذي وجدَ في تمرده كنه الحريَّة. فهي أداة قمعٍ بهذا الكرسي وليست حريَّة، كرسي الحاكم النقيض ولربما العدو اللدود لفضاء حسين مردان الذي يمتدُّ شاسعاً.

الشاعر الحقيقي يجدُ في أولى متبنياته وأحلامه قضايا الإنسان الكبرى كالحريَّة والعدل والمساواة بل وينذر نفسه لها، سواء تحققت - وهذا هو المستحيل - أم لم تتحقق ولو بحدود الهامش. لذا تجده مقموعاً في كل زمانٍ ومكان، سجيناً، منفياً، مشرداً، محروماً من أدنى متطلبات حياته كواحدٍ من الحالمين بالحريَّة.

يتمنطقُ البعض وهو يردُّ عليك بكل ما أوتي من سذاجة وقرف: ألم تصدر كتابك ووزعته بـ(حريَّة)؟ ألم تتسلم منحتك السنويَّة بـ(حريَّة)؟ ألم تشارك في المهرجانات والندوات والمؤتمرات بـ(حريَّة)؟

وكأنَّ الحريَّة تلخصت بهذه التي لا تشغل سوى العقول المثقلة بكسب رضا من يمنحها لك وباشتراطاته التي لا علاقة لها بأفق حريتك التي تريد، فقل ما تشاء باستثناء طائفة المانح ومنطقته وعشيرته! هكذا تُفهمُ الحريَّة وفق عقول القائمين على فعاليات الثقافة وأنشطتها، فكم من حبالٍ تشدّ بها وليس طرف شعرة كما أرادها مردان؟

الحريَّة معضلة دائمة في حياتنا، وليس ثمة المتنفس المعين الوحيد لتعاطيها سوى الكتابة، ولكنْ كيف الخلاص من أعداء جوهرها؟

تراودك فكرة، تصيغها جملة تظنها تحملُ شيئاً من شفاء غليلك وسرعان ما تنشرها على صفحتك الشخصيَّة في "فيسبوك" التي هي بقايا ممتلكاتك إلا أنك تصطدم بردود أفعال الذين وجدوا في قمعك راحة بالهم وطيب خاطرهم، يتلذذون بعذابك، إنهم مثقفون! يا لها من خيبة ومرارة. لكنْ سرعان ما تفيق وأنت تصنفهم فهم يتوزعون بين طائفي ومناطقي ونقابي، أي ثلاثي قامع لك هذا؟ وأي قدرٍ جعلك تراه وتعيش معه؟

الحريَّة تضيقُ وقمعك يتسعُ فأين الخلاص؟

تتخذ قرارك بالعزلة فهي النعمة الوحيدة المتبقية، وسرعان ما تجني ثمارها، إذ تجد نفسك في الضفة الأخرى، حيث تسودُ السكينة ويتسعُ التأمل، بينما الضفة المقابلة يصلك منها صدى الثرثرة واللغو المجاني والقرف بكل صنوفه. تشكرُ خيارك على ما أنتجت وتصلُ لقناعة واحدة: إنَّ هذه العزلة هي حريتك الوحيدة، حريَّة رعبك من أوساطٍ توحشت حتى فقدت معها اللغة والإيقاع، حريَّة خوفك الدائم من الوشايات التي تسود وتتسيد مجالس الضفة التي تخلصت منها بقدرة حلمك الدائم بالحريَّة.

وهل بعد هذا الضيق والتضييق خيار؟

وهل سيتحقق حلم حسين مردان العظيم الذي حارب النفاق الثقافي والسياسي والاجتماعي وكانت في مقدمة ضرائب موقفه أنْ يحالَ إلى القضاء (العادل) لأنه كتب (قصائده بحرية)؟.

حريتك كشاعرٍ لا يهبها لك حزبٌ ولا طائفة ولا سلطة، فعليك بها حريَّة متحررة من هذا كله. ودمتم بحريَّة الحلم ولا سواه. ليكن ما يكون وليقولوا عنك ما يقولون فلا عليك إلا بأنْ تردَّ بذلك البيت الذي قاله الحاج زاير:

(الناس كالوا مجنون 

ابعقلي اقنعت بس انه).