أسامة عبد الكريم
في فيلم" أيام مثالية" للمخرج الألماني فيم فيندرز، نجد أنفسنا أمام عمل سينمائي مميز، ينسج قصيدة هايكو بصرية من تفاصيل الحياة اليومية في ضواحي طوكيو، الفيلم الذي يعد تكريماً للجمال الكامن في البساطة، يأخذنا في رحلة تأملية عبر شخصية هيراياما، رجل اختار التخلي عن مهنته ككاتب ليكرس وقته لتنظيف المرافق العامة.
هذه المهنة البسيطة، التي قد تبدو للبعض تراجعًا عن حياة طموحة، تصبح بالنسبة لهيراياما مصدراً للرضا والسكينة.
هيراياما ليس مجرد عامل نظافة؛ إنه فنان يلتقط الجمال في أبسط التفاصيل. في كل يوم، يمضي وقته في تنظيف المراحيض العامة بدقة بالغة، وكأنه يمارس طقوساً دينية تعبر عن احترامه لأدوات حياته البسيطة بعد العمل، يعود إلى منزله ليسقي نباتاته بعناية قرب نافذته، ويحرص على توفير الوقت الكافي لقراءة الكتب قبل النوم. لكن حياته الروتينية تتعرض لاضطراب عندما تزوره أخته بسيارتها الفاخرة، فقط لتنظر إليه من بعيد قبل أن تغادر، تاركة إياه في حالة من الوحدة التي تدفعه
للبكاء.
زيارة أخته تبرز التباين بين حياة هيراياما وحياة الآخرين، الذين قد يرون في عمله البسيط نوعاً من التراجع، أو الهروب من العالم. لكن هيراياما في هدوئه واستقراره الداخلي، يجد في عمله هذا نوعاً من التحرر الروحي. إنه يعيد صياغة معنى النجاح بعيداً عن المعايير التقليدية، التي قد تفرضها الأسرة، أو المجتمع.. هذه المواجهة الهادئة بين هيراياما وابن أخته، الذي يستفسر عن سبب اختياره لهذه الحياة، تعكس الصراع الداخلي بين البحث عن الرضا الشخصي والضغوط الخارجية.
الفيلم يستحضر أجواء قصائد الهايكو اليابانية، تلك القصائد التي تصف مشاهد الطبيعة، ولأماكن المعروفة للمدينة ببضع كلمات، ولكن بعمق يفوق التصور، يتناغم الفيلم مع هذه القصائد في تكرار التفاصيل اليومية التي يؤديها هيراياما ( الذي فاز بالسعفة الذهبية لأفضل ممثل )؛ تنظيفه المتكرر للأماكن ذاتها، تناوله الطعام في الأماكن المعتادة، وشربه للقهوة المعلبة بطريقة منتظمة، تكاد تكون مقدسة. كل هذه التفاصيل تعبر عن التزامه بالروتين الذي يملأ حياته ويضفي
عليها نوعًا من الهدوء الروحي. من خلال تصوير ضواحي طوكيو، ينجح فيندرز في خلق جو من السكينة والهدوء يلف الفيلم بأكمله. الأحياء الهادئة، الحدائق الصغيرة، والضوء الذي يتسلل من بين أوراق الأشجار، كلها عناصر تضفي على الفيلم طابعاً شاعرياً يعكس جمال البساطة وسحر اللحظات العابرة. في هذه البيئة، يتحول ما يبدو للوهلة الأولى كعمل يومي ممل إلى فن يمس الروح.
زيارة ابن أخت هيراياما تضيف بعداً آخر لشخصيته، اذ يعبر عن استغرابه من اختياره العمل كمنظف للمرافق العامة. يتساءل عن السبب الذي دفعه للتخلي عن مهنته ككاتب والانغماس في هذه الحياة الروتينية. يرد هيراياما بهدوء، موضحاً أن هذا العمل يمنحه الرضا والهدوء، الذي لم يجده في أي مكان آخر. هذه المواجهة تظهر التباين بين حياة هيراياما وحياة الآخرين، وتكشف عن عمق ارتباطه بالمكان وبالناس الذين يخدمهم.
ورغم روتينية حياته، يتسلل إلى هيراياما شعور بالانتماء إلى مجتمعه. فهو لا ينظف المراحيض فحسب، بل يخلق مساحة نقية للآخرين ليعيشوا فيها. في لحظات الفيلم، يبدو كما لو أنه يكرس حياته لخدمة المجتمع، محاولًا من خلال عمله المتواضع أن يضفي على طوكيو نوعاً من الصفاء والنقاء. الفيلم، في جوهره، دعوة للتأمل في البساطة والجمال الكامن في تفاصيل الحياة اليومية، وتذكير بأهمية استثمار الوقت في ما يغني الروح.
في النهاية، يقدم "أيام مثالية" تجربة سينمائية تتجاوز حدود السرد التقليدي، لتصبح دعوة للتأمل والتفكير في حياتنا الخاصة. كما يذكرنا الفيلم بضرورة التقدير للأيام التي نعيشها، حتى لو كانت بسيطة أو روتينية. ففي تلك الأيام المثالية، قد نجد الجمال الحقيقي، ذلك الجمال الذي يتسلل عبر اللحظات اليومية، تمامًا كما يتسلل الضوء من بين أوراق الأشجار ليخلق لحظات من السكون والسكينة في
حياتنا.