بمناسبة ذكرى رحيله .. جليل صبيح ينحاز إلى مجانين الشماعيَّة

ثقافة شعبية 2024/09/26
...

 سعد صاحب


كثير من الشعراء كتبوا عن المجانين، على سبيل المثال : الحاج زاير وشاكر السماوي وجبار الفرطوسي وعبد شاكر ومحمد الغريب، والجنون نوعان : الأول إبداعي حيث يأتي الشاعر بأشياء تثير الاهتمام، وجديدة على الذائقة، وضد المألوف والسائد والمكرور من الكتابة.

والثاني مرضي، يتعرض المصاب بهذا الداء، إلى السخرية والرفض والاستهجان والاستهزاء والعزل، فضلاً عن إبعاده في مكان خاص، وهناك العديد من الأدوية المخصصة لكل مرض، والكي بالأجهزة الكهربائية واحد من العلاجات المستعملة في أغلب الحالات. (يا ربي صاروخ كروز / يحرگ كميله الحارسه / وكل سرف الدبابات / تسحگ اديهه اليابسه ). وبما أن المريض من الهاربين من مستشفى الشماعية، في فترة فوضى العام 2003، بعد أن فتحت الأبواب للمرضى، وفروا في الشوارع بلا هدى، وتصور رجلاً فاقد البصيرة والعقل، يركض مذعوراً بثيابه المتسخة ولحيته الطويلة، بين أصوات الصواريخ والصراخ والشظايا والانفلات الكامل، يرى نفسه الضحية الوحيدة في عالم حاقد، لا يجيد سوى لغة القوة والتهديد والاستلاب، وفي ذروة المعاناة، يتمنى الموت لمن عذبوه في الأيام الصعبة، بطريقة ساخرة خالية من الانتقام. (اتشبگني بايام الكوي /وتلوي الگلب جانت لوي / واريد صاروخ اللاخ / يحرگ صباح الطباخ / ويطفي اجهزة
الكوي).

إدانة
القصيدة تدين الجلاد والطاغوت والسجان والقاتل، والدواء الضار والردهات المظلمة والمشافي المهملة، وتدين الحرب باعتبارها انتهاكاً لكرامة الشعوب، فهي المسبب الرئيس للخوف والجوع والعطش والهلع والهجرة، والهروب إلى الأوطان الآمنة، وفي هذا المقطع تتداخل الأصوات بفنية عالية، صوت الشاعر يناصر صوت المجنون، ضد الألم والبطش والقتل والتعذيب والوحشية والاستغلال، والدعوة إلى سلام عالمي شامل، ينال به المضطرب حقوقه الإنسانية الكاملة. (أيا بشر أيا ناس شنهو الدوي / ردلي الصدى صوت القصف / نصوهه اصوات القصف / والردهه احسهه تنخسف / باجر زيارة واهلي بس لا ينسون / ضايع جليل بهل قلق مو مجنون).

قفشات ساخرة
استخدم الشاعر المفارقة بأسلوب ذكي، فتارة يشيد بالمجانين، باعتبارهم ملح المدن بقفشاتهم الساحرة، وتارة يبارك العقلاء، لأنهم يهندسون لنا الحياة بطريقة مريحة، وظل يلعب كما بهلوان ماهر، على حبل التناقضات الرفيع، ومن لا يجيد اللعب بدقة يهوي إلى النار، وهكذا يظن المجنون نفسه عاقلا، أما العاقل فيظن أنه ليس مجنوناً، كما يقول شكسبير.  (وچ يا كميله ارجوج افتحي الباب صدگيني اعقلت / أولحظه خاف اتخبلت ). من الواجب الوطني والأخلاقي، وقوف الفرد إلى جانب وطنه في وقت الشدائد، والحرب من أكبر المشكلات المرهقة، لأصحاب الضمائر الحية والنفوس الهائمة والقلوب الطيبة، وإن الاحساس بالسلام والحرية والعشق والأمان، أفضل بكثير من كلمة انتصار بائسة، إذا فتشت داخلها وجدت قاطرة من الخسائر. (أنه اعقلت جنيت مو هذا المهم / ودوني ما ريد افتهم / خلوني بالساتر لغم).

معطف المجانين
ثمة علاقة روحية بين المجانين والمعاطف، والعجيب أنهم في الشتاءات الباردة، عراة لا يرتدون الملابس، وفي الأصياف الحاقدة يلبسون الثياب السميكة، وهذا المعطف الذي تطير من جيوبه القصائد، مثل الفراشات الوديعة، يذكرني بالحصيري وجبار الغزي وعقيل علي وحسين مردان. (اخذوا قبوطي يغطي بغداد / حلوه ورقيقه شلون تحمل هالقنابل بغداد). الإلحاح على مفردة وطن بكثرة، ليس من باب الاستهلاك والمزايدة، أو مغالاة في التودد والاقتراب، وإنما احساس حقيقي نابع من شعور داخلي عميق. و بالرغم من عذابات الوطني في زمن قميء، وحرمانه من أبسط الحقوق المتوفرة، لكل الناس في بلدان أخرى، لكن هذا الحرمان المركب، لا يدفعه إلى الإذلال والخيانة والخطيئة، والسقوط في كماشة الرذيلة، بل يزيده وداً استثنائياً إلى التراب، والولاء المطلق إليه بلا مقابل. (كل هالقصف كل هالقنابل عالوطن / و ضلوعي ذن / طن حاويات من التعب يا ما حون / وانه بسجن ردهة كآبتكم نمت ). القصيدة تتحدث عن العالم السفلي، للواقع العراقي المرير، لم يجهد الشاعر نفسه بلغة فوقية معقدة، متعالية على الجمهور، وكانت أكثر الكلمات من المفردات، اليومية المتداولة في الشارع، خالية من التجريد، وبعيدة عن الرموز لكنها
عميقة.